كلٌّ يُفسّر استجداء أمريكا على طريقته.
إن صدر الاستجداء عن نظام بلده، أو عن قائد حزبه، أو عن رمز يرفعه أتباعه إلى مقام العصمة، سُمّي حكمة.
وإن جاء من زعيم تنظيم يُقدَّس بلا سؤال، مهما تفلّت لسانه، أو انكشف سلوكه، أو سقطت عنه آخر ورقة، صار دهاء سياسيّا.
وإن فعله أحد أفراد الدائرة الضيقة التي تتحدث باسم جماعة أو تيار، قيل: قراءة واقعية عبقرية للمشهد الدولي.
لكن إن صدر الاستجداء ذاته عن آخر، انقلب المشهد فجأة إلى خيانة.
وصارت اليد التي تُصافح الشخص نفسه الذي كانوا يبررون مصافحته قبل قليل يدا آثمة.
وصار الباب نفسه، بقدرة قادر، باب عمالة وبيع وتطبيع وانبطاح.
الغريب أن أمريكا هي أمريكا. صدرها لا يتغيّر.
تفتحه للجميع بالقدر نفسه:
تستقبل الملك والمعارض.
وترحب بالحاكم والثائر.
وتمازح المنقلب وتربت على كتف المنقلب عليه.
وللوطني عندها زاوية، وللعميل عندها زوايا، بحسب القاموس المتحرك لكل جمهور، وبحسب لافتة كل مرحلة…
أمريكا لا تسأل كثيرا عن النوايا…
ولا تميّز بين الشعارات…
هي فقط تُصافح من يطرق بابها…
ثم تترك لكل واحد أن يكتب مرافعة تبرير لنفسه، ويخيط لنفسه ثوبا من المصطلحات، ويضع عليه شارة الشرف.
المشكلة ليست في من يذهب إلى واشنطن، ولا في من يستجدي الرضا من واشنطن.
الكارثة في العيون التي تنظر:
عين ترى الاستجداء حنكة وفطنة إذا صدر من زعيم الحزب أو التنظيم.
وعين ترى الاستجداء خيانة إذا جاء من غيرهم.
مع أن الفعل واحد، واليد واحدة، والباب واحد.
وهنا يبدأ مهرجان الفقه المسعف.
بعض التنظيمات المحسوبة على التيار الإسلامي مثلا لا ترى في الاستعانة بعدو- قتل ملايين المسلمين – تناقضا، بل تسميها فقه واقع.
ولا تصفها ارتهانا، بل فقه نوازل.
ولا تعترف بتحالف اضطراري، بل فقه مقاصدي.
فقه يعرف كيف يلين النص حين تضيق المصلحة، ويحتدّ بالخطاب حين يُشير إلى غيرهم.
وهذه الفقوهات لا تُستخرج من كتب الأصول بقدر ما تُستدعى عند الحاجة:
تظهر فجأة حين يكون العدو نافعا، وتختفي تماما حين يكون اللقاء من خارج التنظيم.
فإذا صافحوا هم، قيل: السياسة بابها واسع، والضرورة تُقدَّر بقدرها.
وإذا صافح غيرهم، عاد النص جامدا، وعادت الخيانة أصلا، والعمالة فرعا، والتكفير جاهزا بلا فقه وبلا مقاصد.
وليسوا وحدهم…
القوميون يبدّلون القاموس باسم المصلحة العليا…
والليبراليون يشرحونها بالبراغماتية…
والثوار يسمونها تكتيكا مرحليّا…
وكلهم، عند خصومهم، عملاء…
وعند أنفسهم، واقعيون صادقون مؤتمنون…
في النهاية:
الواقع واحد
وأمريكا واحدة
والأبواب واحدة
لكن التبرير يتغير:
بحسب اسم الزائر لا فعله…
وبحسب الراية لا الدم…
وبحسب من يصفق لا ما يُرتكب…
التناقض لا يعيش في البيت الأبيض،
بل في الخطاب الذي يبدّل معاييره كلما تبدّل صاحب المصافحة…
إحسان الفقيه زاوية إخبارية متجددة