ليس عيبا أن تغترب ..

ليس عيبا أن تغترب ..

ولا خطيئة أن تبحث عن رزقك حيث يتّسع الأفق وتضيق الأرض….

ولكن الخسارة الفادحة أن تقطع الخيط…

ذلك الخيط الرفيع الذي يربطك بوجوه كبرت دون أن تنتبه ..

وبأطفال صاروا رجالا قبل أن تختبر نُسخ أصواتهم الأولى

وبشيوخ عبروا ما قُدِّر لهم من أنفاس إلى الغياب دون أن تمسك أيديهم في أيامهم الأخيرة….

الغربة قد تصنعك مهنيا .. تملؤك شغفا واتساعا في الرؤية وإلماما بتفاصيل الدُنيا وأسرار الكون.. لكنها إن طال أمدها بلا عودة…

تسرقك إنسانيا …

بل تسرقكَ من نفسك .. تنتزعك من تاريخك وجذورك ..

نحن أبناء القرى نعرف هذا أكثر من غيرنا…

الفلاح لا يرى الأرض ملكية، بل سيرة عُمر ..

يعرف الشجرة باسمها، والمطر بموعده

ويقيس الزمن بالمواسم لا بالساعات….

الفلاح حين يغيب، لا يفتقد المكان فقط

بل يختلّ توازن الحكاية نفسها في داخله ..

قال ابن خلدون: “إن الإنسان ابن بيئته”

وأخطأ من ظنّ أن المقصود الجغرافيا فقط …

البيئة هي الناس ..

واللهجة

الإيماءة بالرضا والمزاج العكر

وطريقة السلام

وصمت المساء حين يجتمع الكبار على باب الدار

او حين يتوافدون الى الجوامع وهم يجرّون الخطى المُتعبة لأداء واجب نداء “الله أكبر ” وعيونهم على حُسن الخاتمة …

ابقَ ما استطعت

وإن سافرت، فاجعل العودة عادة لا حدثا ..

لا تترك أهلك يكبرون في الصور

ولا تجعل موتاهم أخبارا متأخرة تصلك وأنت مُنهمك في أشغالك البعيدة ..

الوطن ليس فندقا نغادره حين تسوء الخدمة ولا يُحسن موظف الاستقبال الترحيب بنا ..

الوطن ليس عقدا مؤقّتا نُلغيه إذا تغيّر مدير المكان الطيب ..

ولا مساحة استهلاك نُقارنها بغيرها ثم نرحل بقرار اللا عودة …

الوطن ليس فكرة رومانسية نكتب عنها من بعيد ..

ولا حنينا موسميا نُخرجه من الدُرج في المناسبات ..

ولا صورة على جدار الذاكرة نُزيّن بها غربتنا كي لا نشعر بالفراغ…

الوطن مسؤولية شعورية قبل أن يكون جغرافيا ..

أن تشعر بثقله حتى حين يثقل عليك ..

أن تبقى حاضرا لا لأن كل شيء عادل وجميل ومُريح

بل لأن الغياب الكامل خيانة صامتة لما تبقّى منك فيه…

الحضور هنا لا يعني تبرير الخطأ

ولا الصمت عن الخلل

بل أن تكون جزءا من النسيج لا شاهدا محايدا من الخارج على رداءة المُنتج أو جودة الحياكة ..

أن تختلف وأنت واقف على الأرض ..

لا وأنت تتحدث عنها من خلف الزجاج…

أن تكون حاضرا حين يكون الحضور أثمن من المال

حين يحتاج المكان إلى شهود لا إلى متفرجين

وإلى من يعرف أسماء الشوارع قبل أن تُرقّم ..

وأصوات الكبار قبل أن تبهت وتختفي

وأيام الفقر التي صُنعت فيها الكرامة لا الخطابات…

ومن استنشق رائحة التراب وفركها يابسة بين أصابعه

لا كاستعارة شعرية بل كذاكرة حقيقية ..

عرف أن الأرض لا تُسكن فقط… بل تسكن وتستوطن العظام قبل اللحم والدماء التي تجري في العروق ..

وعرف أن بعض الجذور إن اقتُلعت

قد تنجو في الظاهر

لكنها تفقد سرّها

وتذبل ببطء

ولا تُزرع من جديد… مهما بدا التراب الآخر خصبا …

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

التواضع ليس فضيلة.. إنه فهم للحقيقة

التواضع ليس فضيلة إضافية نُعلّقها على صدورنا ولا مهارة نتدرّب عليها بوعيٍ أخلاقي مُتكلّف .. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *