حين تسقط الكلمة قبل النتيجة

حين يقولون عن “النشامى” إنهم كذا أو ليسوا كذا …

فاعلم أنك لا تقرأ وصفا رياضيا، بل تعريفا مقلوبا للرجولة…

وحين يُصرُّ كاتب مأزوم على نزع اللقب.. فاعلم أن المشكلة ليست في المنتخب،

بل في المقياس الذي تُقاس به القيم عند الغضب…

فالنشامى، عند بعضهم، صفة تُمنح بالتصفيق وتُسحب بالهزيمة …

وعند آخرين، حالة أخلاقية لا تصمد أمام الشماتة…

وحين يختلط الحقد بالمقال، تتحول الرجولة إلى شعار، والفروسية إلى مادة للسخرية،

والوطن إلى خصم مؤقت في مباراة…

الغريب أن من يكثرون الحديث عن “القيم” هم أول من يتخلّون عنها عند أول فرصة للشماتة …

ومن يرفعون لواء الأخلاق .. يسارعون إلى رميه حين لا تخدمهم النتيجة…

فإذا فازوا، كتبوا عن الروح الرياضية … وإذا خسر غيرهم، كتبوا عن السقوط الأخلاقي… للآخر فقط….

وهنا لا تعود الكرة كرة، ولا المباراة مباراة، بل تتحول الهزيمة إلى امتحان للخطاب،

وتتحول الكلمة إلى كاشف أخطر من النتيجة نفسها…

لم تكن خسارة منتخب الأردن في نهائي كأس العرب لكرة القدم هي الحدث المؤلم…

فالرياضة، في جوهرها، مساحة تنافُس شريف، يعرف فيها الجميع أن الفوز والخسارة وجهان طبيعيان للعبة…

المؤلم حقًا أن تتحول الخسارة إلى مناسبة للشماتة، وأن تُستغل مباراة كرة قدم لإطلاق خطاب كراهية، يتقمص فيه كاتب عربي صوت شعب كامل، وكأن العراق، بتاريخه وعمقه ووجعه الإنساني، يمكن اختزاله في افتتاحية حاقدة…

ما كُتب لم يكن رأيا، ولا تحليلا سياسيا، ولا حتى انفعالا عابرا بعد مباراة…

بل كان خطابا إقصائيا فجّا، ومحاكمة جماعية رخيصة لدولة وشعب، وانزلاقا لغويا وأخلاقيا لا يليق بالصحافة، ولا بالعروبة، ولا بتاريخ العراق الذي نعرفه ونحترمه…

السؤال الجوهري هنا: من منح الكاتب حق التحدث باسم العراقيين؟!

ومن خوّله توزيع مشاعرهم، وهم الذين خبروا الخسارات الحقيقية، وذاقوا من الحروب والحصار والانكسارات ما يجعلهم أبعد الناس عن الشماتة؟

العراقي الذي عرف معنى الفقد الحقيقي لا يحتفل بسقوط غيره، لأنه يعرف جيدا أن الألم لا يُقاس بنتيجة مباراة.

الأخطر في النص لم يكن الهجوم على منتخب أو جمهور، بل الزج باسم الله في سوق الكراهية، والادعاء بأن الله “كره” بلدًا فأفقره، وكأن الفقر لعنة إلهية، وكأن الغنى شهادة اصطفاء…

هذا ليس رأيا دينيًا، بل إساءة للعقيدة نفسها، وتحويل للإيمان إلى أداة انتقام، واستدعاء فجّ للمقدس لتبرير الحقد…

الفقر ليس علامة غضب إلهي، كما أن النفط ليس برهان رضا يا بعض المارقين !

والتاريخ مليء بأمم فقيرة حفظت كرامتها، وأخرى غنية أهدرتها…

فالدول لا تُقاس بما تحت أرضها، بل بما فوقها من قيم، ولا تُحترم بثرواتها الطبيعية، بل بثباتها الأخلاقي وسلوكها السياسي.

السخرية من الأردن لقلة موارده، والتهكُّم على اعتماده على الدعم، لا تكشف شيئا عن الأردن، بقدر ما تكشف عقلية ترى الكرامة في باطن الأرض لا في سلوك البشر.

والأردن، رغم محدودية موارده، لم يجعل الفقر ذريعة للكراهية، ولم يرفع سكين الطائفية، ولم يحوّل الشماتة إلى خطاب…

أما التعميم الفج على شعب كامل بسبب هتاف مدرج، فهو منطق العاجز عن التمييز بين الخطأ الفردي والسلوك الجمعي…

نعم، أي هتاف مسيء مُدان ومرفوض ولا يُحترم فاعله ولو كان ابن عمّ ودم،

لكن تحويله إلى صك إدانة لدولة بأكملها هو انحدار فكري لا علاقة له بالرياضة ولا بالعدالة…

والأكثر دلالة على خطورة الخطاب هو إقحام الفلسطينيين في سياق الكراهية، وكأن العداء لا يكتمل إلا بتوسيع دائرة الشتم…

في حين أن الأردني والفلسطيني لم يكونا يوما إلا في خندق واحد، ومن يحاول العبث بهذه الحقيقة التاريخية لا يخدم قضية، بل يفضح نواياه…

ثم يأتي الاستعلاء على لقب “النشامى”، وكأن القيم تُمنح أو تُسحب حسب المزاج…

النشامى ليست شعارا ولا لقبا دعائيا، بل سلوك يُقاس في المواقف، لا يسكن مقالات الشماتة، ولا يتغذى على كره المهزوم.

العراق أكبر من هذا النص، وأعمق من هذه اللغة، وأشرف من أن يُمثَّل بخطاب يرى في خسارة مباراة فرصة لتصفية حسابات نفسية وتاريخية…

والأردن، دولة وشعبا، أكبر من أن تهزه افتتاحية مسمومة، وأقوى من أن يُختزل في حقد عابر.

الخسارة الكُروية حدث عابر، تمضي معه الهزيمة كما يمضي النصر، لأن الملاعب خُلقت للاختلاف لا للقطيعة…

أما الكلمة حين تُنتزع من معناها، وتُسخَّر لتغذية الكراهية، فهي لا تسقط وحدها، بل تكشف السقوط الذي سبقها…

فالنتائج تُمحى من الذاكرة، لكن الخطاب حين يُجرّد الإنسان من إنسانيته، يظل شاهدا على لحظة اختار فيها صاحبه أن يهزم المعنى قبل أن يهزم الخصم…

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

بعد مقتل أبو شباب… هل انهارت عمالة الاحتلال في غزة؟

أبو رغال، ذلك الرجل الذي خرج مع جيش أبرهة يدله على البيت الحرام الذي أراد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *