توقُّف الحرب، لا يعني أن الألم توقّف….
في #غزة ما إن هدأ صوت القصف، حتى علا صوت المطر وهو يجلد الخيام ..
وما إن صمتت الطائرات، حتى صرخت الريح وهي تقتلع ما تبقّى من قماش مهترئ،
كأن الحرب غيّرت شكلها فقط، ولم تغادر….
الشتاء الذي يتغزّل به الشعراء .. ذاك الذي نراه من خلف الزجاج
ونحتفي به بفنجان قهوة ومدفأة وذكريات دافئة .. وصوت الحطب ممزوج بالذكريات…
هو شتاء لا يعرفه أهل غزة….
هناك، الشتاء ليس فصلا .. بل حُكما بالإعدام البطيء.
في غزة، لا يأتي المطر ليغسل الأرواح.. بل ليُغرق الخيام.
ولا تأتي الريح لتنعش الهواء، بل لتكشف الأجساد.
ولا يأتي البرد ليعلّم الصبر .. بل ليختبر ما تبقّى من حياة في جسد طفل.
الخيام التي أنهكتها شمس الصيف، أجهز عليها مطر الشتاء.
أسقف مثقوبة .. أرض موحلة.. أغطية نادرة أو مبلولة..
وأجساد ضعيفة أنهكها الجوع قبل أن يمسّها الصقيع.
أيّ شتاء هذا
الذي يُصبح فيه الموت بردا لا قصفا؟
أيّ عالم هذا الذي ينجو فيه من القذيفة
ليُهزم أمام دفقة ريح؟
في غزة، اعتاد الناس القصف…
صار الخوف من الموت احتمالا مؤجّلا، بين شهيد وناج.
لكن البرد لا يؤجَّل
الجوع لا ينتظر
الماء الذي يتسرّب إلى الخيام لا يرحم….
الشتاء هناك فعلٌ مضارعٌ مستمر،
يقتل في كل لحظة، ويستنزف الأمل بلا صوت.
مليونان من البشر… يعيشون منذ عام كامل
في خيام لا تصلح لليلة واحدة….
ثمانون في المئة منها لم تعد خياما أصلا،
بل شواهد قماشية على تخلّي العالم وخيبة الأمل….
لا غذاء يولّد الدفء
ولا وقود
ولا دواء
ولا أمان…
حتى في الأماكن التي يُقال إنها “آمنة” …
لقد تركنا غزة وحدها أمام الشتاء….
وتركنا معها وصايا عمر بن الخطاب
وحرص أبي يوسف على السجناء
وسخاء الليث بن سعد في برد الفقراء….
لم يبقَ من تاريخنا إلا الاقتباسات
ولا من أخلاقنا إلا الحنين إليها.
*المجتمع الدولي يُحذّر… ثم يعتذر…
يتحدّث… ثم يصمت…
والأغطية عالقة
والمساعدات مؤجّلة
والاحتلال مطمئن
لأن العالم اعتاد المشهد….
لكن الأشد قسوة
ليس صمت العالم
بل اعتيادنا نحن….
نبكي
ثم نهدأ
ثم ننسى
ثم نُشيح بوجوهنا كي لا نتألم….
أهذا كل ما بقي لنا؟
أن نعرف… ولا نتحرّك؟
أن نرى… ولا نغضب؟
أن يموت الأطفال من البرد ونُقنع أنفسنا أن القصف كان أقسى؟
ترددتُ كثيرا قبل أن أكتب .. لأن الكاتب لا ينبغي أن يكتفي بالسرد…
لكن أيّ حلّ يُكتب ومفاتيح غزة في يد عدوّها؟
وأيّ اقتراح يُقدّم والحصار محكم والأبواب موصدة والتواطؤ مُريح؟
ومع ذلك…
السكوت خيانة والنسيان موتٌ آخر…
اكتبوا عن شتاء غزة.
تكلّموا
ذكّروا
لا تتركوا الألم يتسلل ويسكُن بصمت !
إن لم يتحرّك العالم فليعلم أهل غزة
أن خلف الحصار قلوبا موجوعة
وأن العجز لا يعني القسوة
وأن الصمت ليس نسيانا .. بل قلّة حيلة نسأل الله أن يُنجينا منها ..
اكتبوا …
لعلّنا
إن لم نقدر على إنقاذ الأجساد .. نحفظ على الأقل ما تبقّى من الضمير.
ولترددوا معي دعاء أويس القرني رضي الله عنه:
“اللهم إني أعتذر إليك من كل كبدٍ جائعة ومن كل جسدٍ عارٍ…
فليس لي إلا ما على ظهري وفي بطني”
والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون …
إحسان الفقيه زاوية إخبارية متجددة