في الوقت الذي يتجهز جيش الاحتلال لشن عملية واسعة على غزة بهدف إغلاق هذا الملف إلى الأبد، جاءت العملية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية مؤخرا في خان يونس صادمة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعصابته من اليمين المتطرف، لتعيد خلط الأوراق وتربك الحسابات الاستراتيجية والعسكرية للقيادة الإسرائيلية.
العملية التي شنتها المقاومة بفصيل مشاة على موقع مستحدث لجيش الاحتلال جنوب شرقي مدينة خان يونس، كانت ضربة مُركَّبة، حيث استهدفت عناصرها عددا من دبابات ميركافا 4، وعددا من المنازل التي يتحصن بداخلها جنود الاحتلال واشتبكوا معهم من المسافة صفر، وتمكنوا من قنص قائد دبابة ميركافا 4، وقاموا بدك المواقع المحيطة بمكان العملية بقذائف الهاون لقطع طريق النجدة، كما قام أحد عناصر المقاومة بتفجير نفسه في قوة الإنقاذ، وخلفت العملية عددا من القتلى والجرحى الإسرائيليين، فيما استهدفت عناصر المقاومة أسر جنود إسرائيليين.
هذه العملية التي تعد الأبرز والأقوى للمقاومة منذ السابع من أكتوبر، تحمل في عمقها العديد من الدلالات والآثار.
العملية تؤكد على أن المقاومة ما زالت قادرة على المبادرة، فالعدو الإسرائيلي قد راهن على أن الجبهة الجنوبية قد استنزفت وأنها أصبحت بيئة عسكرية آمنة، فجاءت الضربة لتؤكد على الجاهزية الميدانية للفصائل رغم القصف والتدمير، وأنها ذات بنية قيادية متماسكة لها القدرة على اتخاذ القرارات تحت الضغط، وكشفت قدرتها على استخدام الأنفاق في هذه البيئة الحضرية المعقدة.
كما كشفت العملية الاهتراء الأمني والاستخباراتي للجيش الإسرائيلي، في بيئة يفترض وفق رواية الاحتلال أنها قد تم السيطرة عليها من قبل القوات الإسرائيلية.
أظهرت العملية كذلك حجم المبالغة الدعائية للكيان الإسرائيلي عن تفكيك البنية العسكرية للمقاومة، وهو التعبير الذي صار عنصرًا أساسا في الدعاية الإسرائيلية، وأن فكرة الحسم الإسرائيلي باتت وهمًا يبيعه نتنياهو لشعبه الغاضب.
وأبرز ما تدل عليه هذه العملية، أن خيار نتنياهو في الاجتياح الكامل لغزة لن يكون نزهة، خاصة مع الوجود المكثف لكتائب القسام في هذه المنطقة.
ولا شك أن للعملية آثارًا مؤكدة على القيادة الإسرائيلية، إذ وضعت نتنياهو في مأزق كبير، حيث يواجه ضغطًا كبيرًا في الداخل من أهالي الأسرى، ومن قبل المعارضة، ومن الشارع الإسرائيلي بشكل عام، والذي بات متشككا في جدوى العملية العسكرية على غزة، ما يشكل مزيدا على الضغط بعد هذه العملية المرعبة.
وما يزيد من هذا الضغط، أن العملية كانت تستهدف ضمن بنك الأهداف، أسر مزيد من الجنود الإسرائيليين لزيادة وتقوية أوراق التفاوض مع الاحتلال، وهذا في حد ذاته أمر يثير الهلع داخل الجيش الإسرائيلي الذي لاحت فيه بوادر التمرد على اجتياح غزة، وبين الجماهير الغاضبة التي تخشى أن يقع المزيد من أبنائها في قبضة المقاومة. فإذا كانت المقاومة لم توفق خلال هذه العملية في أسر جنود إسرائيليين، فإنه من المتوقع أن تنجح في عمليات لاحقة إذا ما تم الانتشار الواسع للقوات الإسرائيلية في القطاع خلال الاجتياح الأكبر المحتمل.
العملية التي وصفها الخبراء بأنها أعظم مقتلة تعرض لها جيش الاحتلال هذا العام، تعزز الانقسام داخل القيادة العسكرية على قرارات نتنياهو وظهيره اليميني في الائتلاف الحكومي حول تنفيذ خطة الاجتياح الكامل لغزة، خاصة مع تدفق التصريحات السياسية والعسكرية التي تؤكد على أن الاجتياح يعني المجازفة بحياة الأسرى وتعريض القوات الإسرائيلية لخسائر فادحة في الأرواح.
ولئن كان من المتوقع أن تتعالى أصوات الرافضين للحرب المطالبين بوقفها والذهاب إلى المفاوضات، إلا أن أطماع نتنياهو لا يتوقع لها أن تتنازل عن هدف الحسم العسكري، لكن يمكن أن تؤدي العملية إلى إرجاء الاجتياح الكامل لغزة حتى تهدأ الزوبعة المثارة بعد عملية خان يونس وتداعياتها، ولحين إجراء مزيد من الاستعدادات والتعبئة لتكون جهوزية القوات الإسرائيلية عالية لمواجهة هذا الجحيم المنتظر.
وفي الوقت نفسه، يتوقع في ظل هذا الإرجاء المحتمل للاجتياح، أن يركز نتنياهو على عمليات القصف المستمرة لأماكن متفرقة من القطاع، من أجل مزيد من الضغط على المقاومة للاستجابة الكاملة لكل شروط نتنياهو.
ومهما كانت المآلات، فإن هذه العملية قد أعادت موازين القوى، ونسفت وهم السيطرة على جنوب القطاع، وإذا ما استطاعت المقاومة تنفيذ عدد من هذه النوعية من العمليات المؤثرة، فقد يؤثر ذلك على قبول القيادة الإسرائيلية بالذهاب إلى المفاوضات وفق المقترح الأخير الذي وافقت عليه المقاومة الفلسطينية وتجاهله نتنياهو.