سؤال بسيط في شكله، خطير في مضمونه:
“هل يتقدّم الإنسان في العمر حين يتوقف جسده… أم حين تتوقف علاقته بالمعنى؟”
ليست الشيخوخة، كما يُخيّل لنا غالبا، مرحلة انسحاب طبيعي من الحياة،
ولا هي مجرّد تراجعٍ جسدي تُفرض معه العزلة كقدرٍ محتوم…
هذا التصوّر نفسه هو ما جاءت نظرية النشاط في الشيخوخة لتقويضه..
روبرت ج. هافيجورست، الذي صاغ هذه النظرية في ستينيات القرن الماضي، لم يكن مهتمًا بالشيخوخة بوصفها رقما زمنيا، بل بوصفها تجربة وجودية…
لم يسأل: كم سنة عاش الإنسان؟
بل سأل: كيف عاشها؟ ومع أي شعور داخلي تجاه ذاته؟
*تخطئ القراءة السطحية حين تختزل نظرية النشاط في الدعوة إلى “ملء الوقت”
أو “ممارسة الرياضة” أو “الانخراط الاجتماعي بأي ثمن”.
فالنظرية، في جوهرها، لا تقول: كن نشيطا كي لا تشيخ
بل تقول: ابقَ على صلة بما يمنحك إحساسا بأنك ما زلت أنت…
*النشاط هنا ليس نقيض السكون الجسدي، بل نقيض الفراغ النفسي.
هو أن يشعر الإنسان، حتى في سنواته المتأخرة، أنه:
ما زال قادرا على العطاء
ما زال مرغوبا في حضوره
ما زال فاعلا لا زائدا عن الحاجة …
ولهذا، لا تُعدّ كل الأنشطة متساوية في قيمتها….
أن تجلس مع أناس لا يشبهونك، أو تمارس نشاطا لا يلامس روحك، قد يزيد الإحساس بالوحدة بدل أن يخففه….
وهنا تتقاطع النظرية مع ما قاله فيكتور فرانكل:
“الإنسان لا ينهار حين يتعب، بل حين يفقد المعنى”
*لفهم عمق نظرية النشاط، لا بد من وضعها في سياقها النظري الأوسع:
-نظرية الانسحاب ترى أن التقدّم في العمر يستلزم تراجعا طبيعيا عن الأدوار الاجتماعية، وكأن الشيخوخة استعدادٌ هادئ للغياب !
-نظرية الاستمرارية تفترض أن الإنسان يحاول الحفاظ على نمط حياته السابق مع تعديلات تفرضها الظروف….
-أما نظرية النشاط فتذهب أبعد:
لا تسأل هل انسحبت؟ ولا هل استمررت؟
بل تسأل: هل ما تفعله الآن يمنحك شعورا بالقيمة؟
وهنا يظهر الفارق الجوهري:
الشيخوخة الجيدة ليست في كثرة الحركة بل في صدق العلاقة مع ما نفعله…
الجسد يتراجع… نعم .. لكن النفس تطالب بمعنى أعلى…
*علميا، وبعد قراءة عشرات الكُتب والأبحاث .. أقول:
لا جدال في أن الجسد يضعف ..
-العظام أقل كثافة
-العضلات أقل قوة
-الحواس أبطأ استجابة…
*لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في هذا التراجع البيولوجي
بل في التحوّل النفسي المصاحب له:
حين يشعر الإنسان أن دوره انتهى، وأن وجوده بات عبئا.
*كثير من كبار السن لا يعانون من الألم بقدر ما يعانون من:
-الفراغ
-فقدان الدور
-الإحساس بأنهم أصبحوا “على الهامش”
*وهنا تأتي نظرية النشاط كطرح أخلاقي قبل أن تكون طرحا نفسيا:
-الإنسان لا يُقاس بقدرته الجسدية، بل بقدرته على الإسهام، ولو رمزيا ،،
ولهذا قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
“قيمة كل امرئ ما يُحسن” والإحسان لا عمر له.
ورغم وجاهة النظرية، إلا أنها ليست مُنزّهة -بلا شك- عن النقد.
فليست كل الظروف تسمح بالنشاط:
-فقر
-مرض
-إعاقات
-فقدان الشريك أو الدائرة الاجتماعية
بل إن الإصرار على “النشاط” في بعض الحالات قد يتحول إلى ضغط نفسي إضافي، وكأن الإنسان يُلام على هدوئه، أو يُدان لأنه اختار العزلة….
وهنا تبرز القراءة الناضجة للنظرية:
النشاط ليس فرضا أخلاقيا، بل خيارا شخصيا.
والمعيار الحقيقي ليس عدد العلاقات، بل درجة الرضا الداخلي…
قد يجد إنسان مُسِنّ سلامه في القراءة، أو التأمل، أو العيش بوتيرة بطيئة.
أنا أعيش هذا منذ سنوات ولا أجد نفسي تجاوزتُ العشرين رغم وصولي للسابعة والأربعين !
فهذا لا يعني انسحابا مرضيا، بل إعادة تعريف للحياة.
كما قال كارل يونغ:
“من لم يفهم شيخوخته، عاشها كعقاب”
*نظرية النشاط لا تقول لكبار السن: اركضوا كي لا تموتوا.
بل تقول:
لا تسمحوا للحياة أن تُقصيكم قبل أن تغادروها.
هي دعوة إلى:
-حماية الكرامة
-صيانة الهوية
-إبقاء خيط المعنى مشدودا بين الإنسان والعالم ..
فالشيخوخة، في أعمق صورها، ليست نهاية الدور،
بل تحوّل نوع الدور.
ومن أدرك هذا، لم يخف من التقدّم في العمر ..
بل خاف فقط… من أن يعيش بلا معنى…
إحسان الفقيه زاوية إخبارية متجددة