لسنوات طويلة، تعلّمنا أن نفصل بين العقل والجسد…
كأن التفكير يحدث في حيٍّ معزول داخل الرأس !
وكأن الجسد مجرد آلة صامتة تنفّذ الأوامر…
لكن هذا الفصل لم يكن علما خالصا بل ميراثا فلسفيا قديما
بدأ مع ديكارت، وترسّخ في وعينا حتى صار بديهة…
ما تكشفه اليوم أبحاث علم النفس العصبي – كما عند إلين لانجر-
ليس فكرة “التواصل” بين العقل والجسد..
بل حقيقة أبسط وأدق:
العقل والجسد ليسا شيئين منفصلين أصلا… هما وحدة واحدة…
حين تتغيّر فكرتك عن نفسك..لا يتغيّر شعورك فقط
بل تتبدّل حواسك
تختلف استجاباتك
وتتأثر ذاكرتك وتوازنك وحتى جهازك المناعي….
كأن الجسد يُنصت للفكرة قبل أن تُترجم إلى إحساس…
في إحدى أشهر تجارب لانجر، لم يُطلب من كبار السن أن يمارسوا رياضة قاسية،
ولا أن يدخلوا في طقوس تأمل معقّدة، بل فقط أن يعيشوا أياما
وكأنهم أصغر بعشرين عاما….
النتيجة لم تكن رمزية، بل بيولوجية قابلة للقياس:
-تحسُّن في البصر والسمع
-قوة جسدية أوضح
-ذاكرة أنشط
-وملامح أقل إنهاكا…
لم يعد الزمن إلى الوراء
لكن طريقة رؤيته للنفس تغيّرت…
وهذا المعنى ليس غريبا عن الروح الإسلامية..
فالقرآن لا يتحدث عن التغيير بوصفه فعلا خارجيا أولا..
بل بوصفه حركة داخلية:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
لم يقل: ما بأجسادهم
ولا ما بظروفهم
بل “ما بأنفسهم…”…
حيث تتشكّل الرؤية وتُصاغ النية ويُحدَّد الاتجاه.
وقال النبي ﷺ: “إنما الأعمال بالنيات”..
والنية هنا ليست مجرّد قصد أخلاقي بل حالة داخلية
تعيد ترتيب الفعل وأثره… بل تعيد ترتيب الإنسان نفسه.
نحن – في النهاية – لا نعيش في أجسادنا كما هي
بل نعيش فيها كما نراها….
نشيخ حين نعامل أنفسنا ككائنات منتهية
ونضعف حين نكرّر صورة العجز
ونتعافى حين نوسّع زاوية النظر….
ليس في هذا إنكار للقدر
ولا تمرّد على الواقع
بل فهم أعمق لمعنى التوكّل:
أن تعمل على ما بيدك من وعي وتسلّم بما خرج عن يدك من نتائج…
العقل لا يقيم في الرأس، ولا الجسد مجرّد وعاء…
كلاهما يسكنان في طريقة واحدة:
كيف ترى نفسك… وكيف ترى العالم.
إحسان الفقيه زاوية إخبارية متجددة