سن الأربعين ليس رقما عابرا في تقويم العمر، بل محطة وجودية يقف فيها الإنسان بين زمنين، وقد اتسعت عيناه بما يكفي ليرى الخلف والأمام معا…
هو السن الوحيد الذي توقف عنده القرآن الكريم وقفة دعاء، لا وقفة حكم ولا تشريع، كأن الله يخاطب الإنسان فيه بوصفه كائنا بلغ تمام الوعي، فقال سبحانه وتعالى:
“حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين”…
ليس هذا دعاء مرحلة، بل دعاء ميزان….
شكر لما مضى، ومسؤولية عما سيأتي، واعتراف بأن الطريق لا يكتمل إلا بالرجوع إلى الله لا بالثقة الزائدة بالنفس….
في الأربعين يقف الإنسان على قمة جبل العمر….
ينظر إلى السفح الأول، فيرى طفولته وشبابه، لا كذكرى بعيدة، بل كمذاق لا يزال عالقا في الروح.
ثم ينظر إلى السفح الآخر، فيدرك لأول مرة أن المسافة أقصر مما كان يظن، وأن ما تبقى ليس وعدا مفتوحا بل أمانة محدودة…
في هذا العمر يصبح الإنسان قادرا على فهم الجميع….
يتحدث مع الصغير بقلبه، ومع الشاب بطموحه، ومع الكبير بحكمته…
لا لأنه يعرف كل شيء، بل لأنه ذاق من كل شيء شيئا….
وفي الأربعين يبدأ الجسد بإرسال رسائله الصامتة…
بياض الشيب لا يأتي فجأة، لكنه يعلن نفسه بثقة….
والنظر الذي كان يلتقط التفاصيل بلا جُهد، يحتاج الآن إلى عدسة صغيرة ترافقك، لا لتُذكرك بالضعف، بل لتقول لك إن الزمن يطالبك بالانتباه….
وفي الأربعين تسمع نداءك الجديد في الأماكن العامة
تفضل يا عم !
تفضلي يا خالة ![]()
فتبتسم دهشة لا اعتراضا، لأنك تدرك أن العمر لا يقاس بما نشعر به، بل بما يراه الآخرون فينا.
المفارقة أن من تجاوزوا الستين ينظرون إليك ويقولون:
ما زلتم شبابا !
فتكتشف أن الشباب ليس مرحلة عمرية، بل موقعا متغيرا في نظر من هم أبعد منك على الطريق…
لكن السؤال الحقيقي لا يبدأ من الجسد، بل من الداخل….
في الأربعين يأتي السؤال الذي لا يرحم:
ماذا أنجزت؟
في عملك؟
في أسرتك؟
في نفسك؟
وفي علاقتك مع ربك؟
وهنا يصبح الصمت ثقيلا !
لأنك تدرك أن الأعذار التي كانت مقبولة في العشرين لم تعد مُقنعة الآن، وأن التأجيل الذي كان يبدو ذكيا صار خطيرا….
قال الحسن البصري:
“ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك” …
وفي الأربعين تشعر لأول مرة أن الأيام لم تعد تمر، بل تنقص…
في هذا العمر تتغير نظرتك للأشياء …
ترى والديك إن كانا موجودين، فتدرك أنهما ليسا جزءا من حياتك، بل أصلها…
وترى أبناءك وقد صاروا أقرب إلى الإخوة، ينافسونك طولا وفكرا، وينتظرون منك الصحبة لا السلطة…
وترى الأصدقاء القلائل الذين صمدوا حولك واحتملوا مزاجيتك وعيوبك، فتفهم أن البقاء في الحياة ليس للكثرة، بل للصدق.
وفي الأربعين تنظر إلى أخطائك القديمة، وحماقاتك الكثيرة .. لا لتجلد نفسك، بل لتدرك أنها لا تليق بمن بلغ سن التوازن والعقل.
فتبدأ مرحلة الحصاد الأولى…
لا حصاد النتائج النهائية، بل قراءة اللوحة…
تفهم أن التغيير ممكن، لكنه لم يعد سهلا كما كان، وأن كل خطوة الآن تحتاج وعيا مضاعفا….
الأربعون ليست أزمة كما يشاع يا قوم … بل يقظة….
وليست نهاية، بل بداية مختلفة….
بداية أقل اندفاعا، أكثر صدقا، وأقرب إلى الله….
تحية لكل من بلغ الأربعين، أو اقترب منها، أو تجاوزها بقليل …
فقد دخل مرحلة لا يعود فيها الإنسان شابا متهورا، ولا شيخا مُستسلما،
بل إنسانا يعرف أن ما تبقى من العمر لا يقاس بطُوله وعرضه، بل بعُمقه.
إحسان الفقيه زاوية إخبارية متجددة