كفرأبيل ليست قرية عادية…
ولا يمكن أن تُقاس بجغرافيا أو خريطة أو بعدد بيوت من حجر قديم أو حديث.
كفرابيل موطنٌ إذا دخلته شعرت أنّ الأرض تتنفس
وأن الشجر يعرف أسماء الناس
وأن الطريق يحفظ خطوات الأجداد الذين كانوا هنا كما يحفظ الفجر صوته الأول…
وجارات كفرابيل – كفرعوان، جديتا، كفرراكب، بيت إيدس، وغيرها ..
لسن قرى عابرة تتكرر على سفوح الجبال.
هُنّ ذاكرة الجهة الشمالية كلها ..
وسجادة مُترفة من تراب وإرثٍ وحكايات ..
كأنهن أخوات ولا يهُمّ العدد :
لكل واحدة وجهها، لكن بينهن دم واحد…
في كفرعوان…
البيوت تُشبه البساطة إلى حد يجعل القلب يهدأ فوق عتبته…
وفي جديتا…
الجبل نفسه يملك مزاجا خاصا، كأن النسيم يأخذ إجازته من التعب حين يمر فوقها….
وفي كفرراكب…
ينحني الطريق احتراما، وتنتشر رائحة الخبز والزعتر كما لو أن القرية تصنع نهارها بيديها….
أما بيت إيدس…
فهي حكاية كاملة من صمت أخضر ..
تُربّي أشجارها كما تُربّي الأمهات قلوب أولادهن….
ومع ذلك…
تظل كفرأبيل قلب هذه الجهات .. رُبما لأنها قريتي ..
الجهة التي تُعلّم الجارات معنى القوة الهادئة
والكرامة التي لا تصرخ
والجمال الذي لا يحتاج إلى مدح ليُرى بريقه ….
كفرأبيل ليست قرية…
إنها إحساس وذاكرة ..
وخطوة مُطمئنة فوق ترابٍ يعرفك.
وجاراتها…
لسن جارات ثرثارات، فضوليات….
بل امتداد الروح حين تكبر …
ومرآة الأرض حين تصير أعمق وأجمل…
وديسمبر… في كفرأبيل ليس شهرا عابرا ولا عاديا ..
هو فصلٌ يفتح نافذته على روح القرية كلما نزل المطر…
ولا شيء يُضيء وجوه الفلاحين كما المطر ..
ريحٌ من جهة السهول تحمل معها رائحة التراب المبلول
وأصوات أبناء قومي بعد الفجر وهم يتوافدون نحو سهولهم ..
يحرثون الأرض كأنهم يوقظونها من نوم طويل ..
يجلسون عند ظهر النهار على حافة المصطبة
يمسحون جباههم ويقولون:
“الله يبعث الخير… هالسنة إن شاء الله خير”
أقف في أرضي .. أرى خطوط المحراث تمتد أمامي مثل صفحات جديدة..
وأشعر أن ديسمبر يكتب معي سطوره الأولى…
الأرض ترحب بالزرع كما يرحب القلب بعيد الميلاد:
بشيء من الهدوء، شيء من الخوف
وكثير من الامتنان.
أمس زرعت منتجات البيت بيدي.. لا لا .. بل بأيدي “عمر وأحمد المقابلة”
الفارسان اللذان أنعم الله بهما عليّ منذ قررت أن يكون لي بُقعة سكينة في قريتي..
زرعتها كمن يزرع قطعة من روحه لا من زرعه..
دفنت الحبات في الطين البارد .. ورأيت في كل حفرة أمنية مؤجلة ..
ورغبة في حياة أبطأ، أصدق، أكثر شبها بالقرية التي صنعتني…
في هذا البرد …
حين تهب السماء بركتها
يصبح العمر نفسه كقطرات المطر:
ينزل دون ضجيج .. لكن أثره يبقى في الأرض كما في القلوب..
وفي ديسمبر تحديدا،بل وفي يوم ذكري ميلادي
أشعر أن القرية تحتفل قبلي:
-الرياح تعزف على شبابيك البيوت
-المطر يكتب رسائله على الأرض
-والجبال ترسل صداها إلى السهول
كأنها تهنئة صامتة لامرأةٍ تتقدم عاما آخر ..
وتزداد تجذُّرا ونموّا بعد أن غادرت كل الأمكنة البعيدة والوجوه التي لا تُشبهها… لتزداد هُنا بمرور الأيام
لا تنقص !
اليوم في قريتي كفرأبيل … أُطفئ شمعة لا لأحتفل ..
بل لأتذكر:
أن أعوامي كلها كانت مثل هذه القرية…
قاسية في ظاهرها إلا أنها خصبة في عمقها…
تعرف كيف تنبت القمح من شقوق التعب ..
وكيف تجعل من امرأة واحدة، أرضا كاملة…
تزرع وتُثمر وتُعيد الحياة بمنتهى البساطة.
ديسمبر في كفرأبيل
ليس طقسا…
إنه سيرةُ حياة….
حياتي أنا على الأقل ..
إحسان الفقيه زاوية إخبارية متجددة