أن تكتب: أن تزرع روحك في ورق.. وتنتظر الحصاد بعد رحيلك

أن تكتب كتابا “ليس مجرد رصف كلمات على بياض”، بل أن تنتزع شيئا من خلاياك، من تلك المنطقة التي لا يجرؤ الضوء على دخولها… تضعه بين دفّتين، وتُطلقه إلى العالم كطفل يتيم لا يحمل معه سوى بصمتك.

أن تكتب كتابا يعني أن تُطعّم الورق من شذرات روحك:

من رعشة خوف خبأتها عن الجميع

من انكسار لم تشارك به أحدا

من لحظة فوز لم تجد لها شاهدا ولا مُشاركا

من حوار داخلي دار في ظلام غرفتك حين انقطعت الكهرباء وتأخرت الحياة عن الحضور…

ثم، وبعد مئة عام من رحيلك، يقتني كتابك المنسيّ ذاك.. غريب لم تُقابله قط ..

شاب يعيش في قرية لا تصل إليها الصحف

في بيت طيني بارد

يقرأُكَ على ضوء مصباح خافت أو على شُعاع هاتف قديم ببطارية تحتضر…

يحدث هذا بينما أنت لست هنا…

بل وقد تلاشى صوتك من ذاكرة من عرفوك أو ممن تناسلوا من صُلبك..

لكن عبارة واحدة -جُملة كتبتها في ساعة يأس أو في لحظة صفاء- تنفُذ إلى قلبه كما لو أنها كُتبت له وحده…!

ربما جملة قلت فيها:

-هناك أوجاع لا يصل إليها الكلام، لكنها تكتب نفسها في قلوبنا قبل أوراقنا..

فإذا به يبكي، لا عليك، بل على نفسه التي وجدها فجأة بين السطور.

“ذلك هو مجد الكتابة الحقيقي”:

“أن تهزّ قلب شخص لم تره ..في زمن لم تعشه.. بألم لم تقصده له، وبصدق لم تكن تدرك أنه سينفُذُ إلى قلب أحدهم في مكان بعيد وفي زمن غير الزمن”..

-أن يقرأك عامل بسيط يستيقظ قبل العصافير كي لا يسبقه إلى الشقاء أحد، وهو يحتسي كأس شاي مُرّ قبل الذهاب إلى مصنع بعيد، فيجد في كتابكَ جملة تشبه حربه اليومية مع الفقر…

– وأن تجدك أرملةٌ شابّة، حملت الدنيا وحدها بعد أن خطف الموت رجلا كان نصف عمرها ونصف عقلها ونصف قوتها،

أرملةٌ صارت أُمّا وأبا في آن، وراحت تقطع من ذاتها لتُكمل ذوات أبنائها،

تلتقط كتابك في آخر الليل حين ينام الصغار ويستيقظ وجعها،

فتقع عيناها على جملة تقول:

“الحزن لا يغادرنا بالمشاركة، لكنه يتعلم أن يمشي ببطء كي نقدر على احتماله”،

فتبكي، لا لأنك أيقظت جُرْحها، بل لأنك جعلت وحدتها أقل قسوة، ولأنها شعرت

– لأول مرة منذ رحيل الحبيب- أن أحدا في هذا العالم عرف شكل حزنها دون أن تبوح….

– وأن يلتقط كتابك طالبٌ جامعي قروي، يعيش على الكفاف ويجرّ هموم الدراسة والعمل كما يجرّ حقيبته الممزقة في الطرق الترابية ..

طالبٌ أنهكته المسؤوليات والامتحانات وضجيج المدن التي لا تشبهه ..

ثم يصدمه سطر تقول فيه:

“إن الطريق لا يضيق بمن يمشيه بقلب ثابت، بل يتّسع سرا لكل خطوة صادقة”،

فيتوقف، ويضع الكتاب على ركبته، ويرفع رأسه نحو السماء طويلا،

كأنما يبحث فيها عن علامة تخبره أنه لم يخذل نفسه بعد ..

وأن الله رأى تعبه وإن لم يره أحد…

-أن تقرأك امرأة في آخر الليل، تمسح دموعها من خيبة لم تُخبر بها أحدا، فتجد في كلماتك ما يشبه صوتها الذي لم يخرج يوما ..

-أن يجد فيك رجل خمسيني يجرّ خيباته مثل ظل ثقيل عبارة تقول:

“لا شيء يشيخ أسرع من القلب الذي لم يحبه أحد”

فيبتسم لأول مرة منذ سنوات ..

**أن تكتب يعني أن تبقى … حتى بعد أن تُغلق القبور عليك ..

وتُمحى آثار خطواتك من الطرق التي مشيت فيها ..

أن تبقى في جملة…

في نصف صفحة…

في نَفسٍ عابر لشخص لن تعرف اسمه…

الكتابة مجدٌ لأنك تسمح لروحك أن تُكمل الطريق بعدك ..

أن تطرق أبواب القُرى البعيدة ..

أن تجلس على موائد الفقراء والأغنياء ..

أن تعبر الحدود دون جواز سفر ولا تأشيرة عبور ..

أن تبكي طفلا لم يلتقِ بك ..

وأن تربت على كتف امرأة لم تسمع صوتها ..

وأن تنام في المكتبات القديمة بين كتب لا تعرفك، لكنك تشبهها…

**الكتابة مجد لأنها تمنحك حياة ثانية خارج جسدك ..

حياة لا يحدها زمن ولا مكان…..

حياة تدوم بقدر ما يبقى هناك قلبٌ يبحث عن نفسه بين الكلمات…

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

توقُّف الحرب، لا يعني أن الألم توقّف

توقُّف الحرب، لا يعني أن الألم توقّف…. في #غزة ما إن هدأ صوت القصف، حتى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *