“والله إني لأعلم أن محمدا صادق وأن مسيلمة كاذب، ولكن كذاب ربيعة أحب إلي من صادق مضر”.
تلك الجملة التي نطق بها الأعرابي كانت إعلان إفلاس العقل حين يطغى التعصب، شهادة على ساعة يُوضع فيها الحق جانبا ليجلس الهوى في صدر المجلس..
لم تكن جملة؛ كانت شهادة دامغة على أن التعصب هو أعتى أصنام الجاهلية، ذلك الصنم الذي لا يُنصب من حجر، بل من هوى…
لذلك قال ابن خلدون: الهوى إذا تغلّب أعمى البصيرة عن إدراك الحقائق.
التعصب يطمس نور الفطرة حتى يرى المرء القبيح جميلا، والباطل نصيرا، والكاذب أقرب إلى القلب من الصادق، لمجرد أنه من القبيلة ذاتها، أو الحزب ذاته، أو الطائفة نفسها.
وهنا يصدق قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من عصى هواه فقد عبد ربه ومن أطاع هواه فقد عبد صنمه.
وهذا الأعرابي الذي فضّل كذاب ربيعة على صادق مضر، لم يمت. ..
يعيش بيننا بأسماء جديدة، ورايات جديدة، وخطابات لامعة، لكن جوهره واحد:
يعرف الحق، لكن يتنكّر له.
يرى الصدق، لكن يقف ضده.
يسمع الحجة، لكن يركن إلى صدى قبيلته أو رنين شعارات حزبه أو ألوان راية طائفته.
وهؤلاء هم الذين قال الله عنهم:
“وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا”

يعرفون، ثم يرفضون.
يرى الواحد منهم الكذّاب يكذب، والمتاجر يساوم، والمفسد يعبث، ومع ذلك ينصره لأنه “منا”. !!
ويخاصم الصادق لأنه “من غيرنا”.
أما أنا، فمع كل صادق، سواء خرج من مضر أو من ربيعة، من الشرق أو الغرب، من قبيلتي أو من قبيلة أخرى.
ولن أتردد في نصرة الحق إذا جاء من بعيد، ولن أساوم عليه إذا ضعف أهله أو قلّ أنصارهم.
فإن انقلبت علي ربيعة كلها، لا يضيرني، وإن اجتمعت مضر كلها على كلمة الحق يوما، فمرحبا بهم.
وإن ظهر في ربيعة رجل صادق في لحظة فاصلة، فسأقول لصادق مضر: أثبت تجردك، فالمعركة مع الكذب لا مع الأنساب.
فالحق لا يقف على باب قبيلة، ولا يرفع رايته حزب، ولا يختصره نسب.
الحق أوسع من ذلك، الحق رحِمٌ يتسع لمن طلبه وأخلص له.
وكما قال الشافعي رحمه الله: قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب، فإن ميزان الصواب هو البرهان لا الانتماء.
لا تختزلوا الحق بقوم دون آخرين، ولا تجعلوا الولاء أعمى حتى لا تعودوا تميزون بين مسيلمة ومحمّد، وبين من جاءكم ببرهان ومن جاءكم ببهتان.
الحق حق ولو جاء من بعيد، والباطل باطل ولو نطق به القريب
إحسان الفقيه زاوية إخبارية متجددة