الأحلام التي يراها النائم ليست نوافذ مفتوحة على الغيب، ولا مرايا تكشف ما سيقع غدا، بل هي ـ في أصلها النفسي ـ إعادة تدوير للهواجس التي مرّت بنا، وللرغبات التي طُمست تحت ركام الوعي، وللذكريات التي تبحث عن مخرج في سكون الليل.
فرويد كان يقول إن الحلم هو الطريق الملكي إلى اللاوعي، لكن العرب تعاملوا معه كأنّه الطريق الخلفي إلى السماء.
فأن يرى الواحد منّا شخصًا رحل من الدنيا، يلوح له في ثوب أبيض، أو يمشي بين رياض خضراء تتلألأ بالضياء، لا يعني أنّه عاين مصيره الحقيقي، ولا أنّه رأى مشهدا من نعيم الآخرة !
إنما هي صورة يصنعها القلب قبل أن يصنعها العقل، رغبة دفينة في الطمأنينة، ورسالة يشتهيها الوجدان أكثر ممّا يبصرها البصر.
الحلم هنا ليس كشفا، بل إسقاطا وجدانيا لمصير نرجو أن يكون، لا خبرا عمّا هو كائن بالضرورة.
ومما يثير السخرية في ثقافة التأويل عندنا أنّ الخيال الشعبيَّ صنع منظومات كاملة من “قواعد” لا أصل لها، وأعطاها صبغة يقين لا يقبل المراجعة.
صار “التمساح” في المنام رجلا غادرا، وصارت “الأفعى” في الكوابيس امرأة تكيد وتغار وتتآمر، !
وصار “الطيران” ترقية في العمل، و”المطر” مالا وفيرا ، و”الدم” دليل فساد وتعطيل، و”الموت” حياة جديدة، و”خلع السن” نذيرا بموت كبار السن من العائلة.
بل إنّ بعضهم جعل رؤية “البحر” طريقا للهجرة، و”الطائرة” قربا من الله، و”القطة” خيانة من صديقة مقربة، و”الثعبان الأسود” سحرا مدفونا تحت عتبة الباب او في مقبرة قرية بعيدة !
ومن العجيب أن الناس تتعامل مع هذه الصور وكأنها نصوص مقدسة، حتى أصبح الحلم في ثقافتنا سوقا كبيرة تُباع فيها الدهشة ويُشترى فيها الخوف، يتاجر بها من لا يعرف من علم النفس إلا اسمه، ويُلبس فيها الهوى لباس الكشف والولاية.
لقد توسّعت صناعة الوهم حتى لم تعد تكتفي باستثمار الخرافة في النهار، بل امتدّت إلى هلوسات الليل، وكأنّها تقول للنائم: كل ما يطفو في نومك وحي، وكل رعشة حلم رؤية، وكل صورة تراها خبرٌ عن القادم. !
والحقيقة أنّ ما نراه ليلًا لا يزيد عن كونه فوضى مرتبة، ووجدانا يطلب الخلاص، ودماغا يشتغل على تنظيف ذاكرة النهار كما تنظف الرياح غبار الطريق.
إن أخطر ما فعلته ثقافة التعبير أنها جعلت الإنسان يأخذ صور نومه على أنها إشارات قدر، بدلا من أن يقرأها كرسائل من نفسه إلى نفسه.
فالحلم لا يخبرك عما يريده المستقبل منك، بل عما يريده وجدانك أنت، وما تودّ أنت أن تنساه أو تواجهه أو تحققّه.
ومن عرف هذا أدرك أن الغيب لا يُرى في المنام، وأن الحقيقة لا تولد من الهلوسة، وأن النائم لا يصبح نبيّا بمجرد أنّه نام !
إحسان الفقيه زاوية إخبارية متجددة