«ممنتو موري»= تذكّر أنّك ستموت

«ممنتو موري»= تذكّر أنّك ستموت

كتبت إحسان الفقيه قُرب مقبرة كفرأبيل القديمة:

====

وأنا أُقلّب في صور العصر القُوطي، كانت الأحجار تتكلّم بحدّة وكبرياء..

أقواسٌ مُدبّبةٌ كسهام نور، وقبابٌ تُشعّبها أضلاعٌ رشيقة،

ودعاماتٌ طائرة وكأنها تحمل السماء على أكتافها…

هناك، في فرنسا، تم تدريب الحجر على الخفّة حتى كاد يطير…

انظروا في:

– كاتدرائيّة شارتر بنوافذها الزجاجيّة التي تصهر القصص في ألوان،

-سانت شابيل كصندوق جواهر من ضوء،

ريمس وأميان يغنّي فيهما النحت مدائح للوقت،

-ونوتردام التي أظهرت للعالم أنّ النار يمكن أن تأكل الخشب…

لكنها لا تأكل الذاكرة !

قبل ذلك كان الرومانِسكيّ كثيفًا، جدرانٌ سميكةٌ وأقواسٌ نصف دائريّة تُطمئن القلب بثقله، ثم جاء القوطيّ يرفع السقف ويُدلّي من أعلاه سحابةً من زجاج، ويعلّم البشر أنّ الهندسة ليست ضدّ الروح، بل طريقٌ من الحجر إلى الدعاء.

*وليس الفنُّ الفرنسيّ وحده من صاغ للأفق قامته…

*في فلورنسا شدّ برونلسكي قبةً على كتف المدينة فصار للنهضة قلبٌ نابض، وفي روما جمّع برنيني البشر بأذرع ساحته في القدّيس بطرس،

فصار الحجر أمًّا كبيرة…

* في كولونيا قامت كاتدرائيّةٌ كجبلٍ من الدقة،

*وفي وستمنستر يمرّ الزمن كقدّاسٍ طويل،

*وفي إشبيلية تعانق المئذنة والقبة على هيئة الخيرالدة،

*وعلى تلال غرناطة لا يزال قصر الحمراء يهمس بأن الماء يمكن أن يكون معمارا إذا تعلّم لُغة العرب…

*أما في اسطنبول فقد رفع سنان للسماوات سُلَّمًا من قبابٍ متداخلة في السليمانيّة والجامع الأزرق..

وفي القاهرة الفاطميّة والمملوكيّة تتجاور قبورُ السلاطين ومدارسهم حتى يبدو العلم دعاء ممتدّا في المقابر،

– وفي إصفهان ميدان نقش جهان يثبت أن الفضاء نفسه يمكن أن يُبنى.

ثم تمدّ المدن ثوبها اليوم على مقاسٍ جديد:

-باريس هوسمان بشوارعها التي تشقّ الحجر كما تشقّ الفكرةُ العادة،

-برجٌ من حديد يسمّى إيفل كان موضع خصومة ثم صار تعريفًا،

-مداخل مترو غيمار التي علمتنا أن الحديد يمكن أن يزهر،

ومغامرات حداثة صارمة لدى لوكوربوزييه ثم لعبٌ ذكيّ في بومبيدو،

وكأن المعمار كلّه حوارٌ طويل بين الوزن والخفّة، بين العادة والاختراع..

*لكنّ اليد التي ترفع القباب هي نفسها التي تنقش أسماءها على شواهد القبور. ما أن تملّ العين فائض الجمال حتى يلوح لنا الوجهُ الآخر من المدينة بل ومن الحياة نفسها:

– مقابر بير لاشيز التي تُعلّمنا أن العظماء يساكنون العشب،

هناك يرقد أوسكار وايلد تحت قبلة حجريّة،

-وبالقرب منّا في مونبارناس ينام سارتر ودو بوفوار على صدفة فلسفة طالت ثم سكتت،

-وفي مونمارتر يخفت صخب التلّ في رقدةٍ طويلة…

-في جنوى يمتدّ ستاليينو كمتحف رخاميّ للموت،

-وفي فيينا يجاور بيتهوفن وشترواس بعضهما كأن الموسيقى لم تنتهِ بل تغيّرت غرفتها…

– وفي الشرق مقابر بالبقيع تشهد أنّ التواضع قد يكون أفخم عمارةٍ إذا مسّه اليقين،

-ومقابر القاهرة الكبرى، «القرى» التي تسكنها الأرواح والبيوت معا،

-ومقبرة قريتي العتيقة في «كفرأبيل» شمال الأردن، والتي التهمت هيبة جدي وبَسْملات جدتي، تمتدّ اليوم كصفحة خاملة من تراب، لكنّها أثقل من كتب التاريخ…

هناك، بين الشواهد المتواضعة، تنام حكايات الفقر والتمرُّد المُبكر وأنباءٌ عن غرقي ونجاتي..

هناك يخفت صدى مواسم القمح ووقع أقدام الرُعاة الأوائل…

حجارتها لا تُجيد التزيّن، لكنها تحفظ الأسماء كما تُحفظ الوصايا، وتُبقي للغائبين مكانا لم يزاحمهم فيه أحد…

في تلك المقبرة يتساوى من صعد جبال الحياة ومن هبط واديها،

لتعرف أن الزمن مهما اتّسع يبقى ضيقًا على جسدٍ واحد،

وأن الأرض التي ألقت إليها أسرار آبائنا ستبتلع سرائرنا نحن أيضًا…

كلُّ قبرٍ هناك يشبه بابا مُواربا: يُريك جزءًا من النهاية، ويذكّرك بأن الإنسان، مهما غرس في الدنيا، يعود أخيرا نبتة صغيرة في حضن التراب.

وفي كل زيارةٍ لها، يتبدّى السؤال نفسه: ما الذي سنتركه نحن، غير هذا الغبار الذي سيحفظ أسماءنا يوما ثم نُنسى؟

-مُدن الأموات في الأناضول تُسمّى «كُومبت» و«تُربه» كأن اللغة نفسها تُسدي للموت لقبا يليق به…

– وفي تاج محل يتجلّى الحزن كأبلغ مهندس:

ضريحٌ صار قصيدة، وقصيدةٌ صارت وطنا لحكاية حبّ تأدّبت بالرخام وتلفّعت بالخلود.

المعمار، في حقيقته، ميثاقٌ بين الإنسان والوقت:

نرفعُ حجَرا لئلّا يسقط المعنى.

لكن التاريخ البشريّ، وهو يعلّق مصابيحه على الأفلاك، لم ينسَ كتابةَ الدرس على العتبات:

«ممنتو موري»= وتعني: تذكّر أنّك ستموت.

لذلك ازدهرت رموز الفناء في زوايا الكنائس وعتبات القصور:

-جماجم صغيرةٌ في لوحات «الفانيتاس»،

-رمل ساعة يتساقط ببطءٍ كأنّه يقول للملك والمتسوّل معا:

” كلاكما في الموعد ذاته” !

*كانت العصور الوسطى تمثّل «رقصة الموت» ليتساوى الفرسان والرهبان تحت قناعٍ واحد…

وللإيمان أسباب، من جهته، لم يدع الأمر للرمز وحده: «كل نفس ذائقة الموت»، آيةٌ تقطع الطريق على غرور الواجهة وتعيدك من الميدان إلى القلب.

لسنا أقلّ شغفا بالبقاء من أحجارنا، لكنّ الأحجار نفسها تعرف أنّها تُستبدل ويُرمَّم بعضها ويهوى بعضها في زلازل الحروب والمواسم والكوارث والصُدف…

المعمار العظيم لا يهزم الموت، إنّه يربّي الذوق أمامه؛ يعلّمنا أن نشتغل على ما يبقى منّا بينما لا يبقى منّا شيء…

فما جدوى قوس مدبّب لا يشير إلى معنى،

وما قيمة قُبّةٍ لا تُظلّل عدلا،

وما بال شارع واسع لا يتّسع لضعيف؟

لقد عاشت أممٌ كثيرةٌ في الأبراج التي بنتها، ثم ماتت حين نسيت لماذا بنتها.

الإنسان، مهما فعل، سيجيء يومٌ يُغلق فيه باب غرفته ولا يُفتح…

لا تستعجلوا الحُكم عليّ !

كلامي أعلاه ليس دعوة للقعود، بل وصيّة إحسان من ابنتكم وشقيقتكم إحسان:

“ابنوا ما يستحقّ أن يحميه الدهر لو استطاع -فإن لم يستطع، بقيت المعاني يا قوم !

اتركوا في الحجر أخلاقا

وفي الزجاج صدقا

وفي القِباب تواضعا،

وفي الشوارع رحمة تتّسع للمارة والغرباء….

وحين تعودون من حدائق القوطيّ ومن مقابر المُدن العتيقة، قفوا لحظة على عتبات قلوبكم وليسأل أحدكم نفسه:

“ماذا سأترك في الناس إذا سقطتُّ من جداري؟”

ربما يكون المعمار الأبهى هو ما نبنيه في الداخل:

-ميزانٌ يعدل، ولسانٌ لا يكذب، ويدٌ تعرف أن تَرفُق.

هناك فقط يُهزم الفناء، لا لأن الموت يُهزم،

بل لأن المعنى يبدأ من حيث ينتهي الجسد.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

علّمتني قصة الخضر مع موسى عليهما السلام

علّمتني قصة الخضر مع موسى عليهما السلام أنّ الصحبة ليست عقدَ إذعان، ولا رباطَ عمرٍ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *