قيل إن المخترع الأمريكي صموئيل كولت (1814-1862) عندما حصل على براءة الاختراع للمسدس الذي يحمل اسمه، والذي يعد أول مسدس يطلق النار بشكل متكرر، قال: «اعتبارا من اليوم، يستوي الشجاع والجبان». بعيدا عن كون الأسلحة النارية لم تكن بدايتها مسدس كولت، وبعيدا عن تقييم العبارة ومدى صحتها، فإنها كانت ماثلة أمامي عندما عندما تفكرت في شأن الذكاء الاصطناعي، وذلك العبث الذي ضرب مجال التأليف والكتابة، فلنا أن نستعير عبارة كولت مع التعديل: «اليوم يستوي المبدع وفاقد الإبداع، يستوي المثقف وضئيل المعرفة». يكفي أن تحسن إدارة برامج الذكاء الاصطناعي والتعامل معها، لكي تخرج منه بكتاب يملأ الآفاق ولو لم تكن من أهل الصنعة.
إلى عهد قريب، كان المؤلف والباحث يعتمد على المخطوطات والكتب المطبوعة، التي يقضي في مطالعتها والبحث عنها في المكتبات وقتا طويلا، ويقوم بالعزو إلى المصادر، برقم الصفحة واسم دار النشر ونحوه، وربما كان الكتاب نادرا، أو نفدت طبعته، فيلتمسه لدى الآخرين، ثم يكتب بخط يده، مع كثير من الشطب والتعديل، إلى أن يخرج الشكل النهائي للكتاب، ثم يحمل الأوراق إلى دار النشر لصفّها وطباعتها، فما إن ينتهي من هذه العملية المرهقة حتى يتنفس الصعداء منتظرا ثمرة جهده وكدّه وإبداعه.
مع طفرة التحول التكنولوجي، وربط العالم من أطرافه، وربط القديم بالجديد، من خلال الشبكة العنكبوتية، حصل الكاتب على امتيازات مذهلة في الأدوات التي يتمكن بها من التأليف، فأصبحت هناك مكتبات للكتب المصورة كبديل عن المطبوعة، ويمكنه الحصول عليها خلال ثوان معدودات، ويكفي أن يكتب كلمة، أو بضع كلمات على محرك البحث، حتى يبرز أمام ناظريه كل ما كتب في الموضوع الذي يريد البحث فيها، من كتب ومقالات ودراسات وأبحاث، تختصر وقته وجهده بشكل مدهش.
ومع ذلك، احتفظ كل كاتب بنقاط تميّزه وإبداعه عن المفلسين، إذ أنه ليس عسيرا أن يتم كشف النسخ والنقل والسرقة في الكتاب أو البحث.
لكن مع عهد تطبيقات الذكاء الاصطناعي، اختلط الحابل بالنابل، واستوى المبدع بفاقد الإبداع، وأصبحت مهمة التأليف مشاعا لكل مبتغٍ، ولو كان قليل البضاعة، وفتح الباب على مصراعيه أمام اللصوصية وسرقة إبداع الآخرين، والاختلاس من جهودهم دون الإشارة إليهم.
يكفي أن يكون ملما بكيفية التعامل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ويكفي أن يكون حاذقا في خطابه، وطرح أسئلته ومراده مع البرنامج، ويكفي أن تكون له القدرة على إعادة صياغة المنتج الفكري، فيصبح لديه كتاب جاهز للنشر، لم يبذل فيه مجهودا يُذكر، ولا تستطيع عموم الجماهير اكتشاف هذا الكذب والتدليس، إلا إذا كان الكتاب قد وضع لتقييم دقيق من قبل المراكز البحثية.
ذات يوم فاجأني أحد الأقارب بقصة قصيرة أرسلها إليّ، وأثارت انتباهي بشدة، نظرا لأنه ليس له باع في التأليف، ولم يُعهد به أي محاولة لأن يفعل، فلما سألته عنها، أجابني بأنها نتاج الذكاء الاصطناعي. هذا بدوره ربما يفسر امتلاء معارض الكتاب بأعمال روائية لا حصر لها، فالروايات تبوأت الصدارة في اهتمامات الناس الشباب منهم خاصة، وأصبح حلم كثير من الشباب أن تكون لهم روايات مطبوعة يقتنيها الناس من المعارض والمكتبات. لا أقول بأنه يأخذ المنتج من الذكاء الاصطناعي ساخنا، ثم يحيله إلى دار النشر، لكن القدرة على التعامل مع البرنامج تمكنه من توفيق المقاطع وتنسيقها وتوظيفها، فيكفي أن يعطيه البرنامج بنْية الرواية وسياقها وأفكارها الأساسية والفرعية، وإذا أضيف إلى ذلك قدرة المؤلف المزعوم على إعادة الصياغة، كان أبعد عن كشف السرقة. يرى البعض أنه يجدر أن نسميها استفادة، لكن يجب أن لا ننسى أن الذكاء الاصطناعي مجرد وعاء تتجمع فيه الإبداعات البشرية، والأخذ منه على هذا النحو إنما هو سرقة لإبداعات الآخرين، لذلك وصف اللصوصية في هذا المقام ليس قاسيا.
الاستمرار في امتلاء المكتبات العربية بمؤلفات كان بطلها الأساسي هو الآلة، التي صنعها الإنسان، تخلق حالة من الثقافة الفارغة، لأننا سوف نجد أنفسنا أمام إبداعات وهمية، تشبه رأس المال الوهمي الذي يقوم على القروض والفوائد وقابل للتداول كرأس مال بلا قاعدة مادية منتجة، بمعنى إنه ادعاء ورقي بالثروة، والحال كذلك مع هذه الثقافة الفارغة، التي أنتجتها لصوصية الإبداع، تصبح المكتبة قائمة على إعادة تدوير المنتج نفسه، وليس على الإبداعات المتجددة.
وأرى أن مهمتي تنتهي عند طرق القضية والإسهام مع الآخرين في قرع جرس الإنذار، إزاء لصوصية الإبداع، لكنها مهمة الهيئات الثقافية الرسمية وغير الرسمية في العمل على إيجاد آليات جادة للحد من هذه الظاهرة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الذكاء الاصطناعي: شريك الإبداع لا لصّه
تستحق الأستاذة “إحسان الفقيه” التقدير لطرحها قضية تمسّ صميم الثقافة المعاصرة، وتشغل بال كل مهتمّ بمستقبل الإبداع البشري.
إن مخاوفها من تأثير الذكاء الاصطناعي على الكتابة والتأليف مخاوف مشروعة، تنطلق من غيرة صادقة على الإبداع الأصيل. غير أن المسألة تحتاج إلى نظرة أوسع وأعمق، تتجاوز القلق المبرر إلى فهم أشمل لطبيعة هذه التقنية وإمكاناتها.
إعادة تعريف الأدوات والإبداع
لعلّ التشبيه بمسدس كولت، رغم بلاغته، يحمل في طياته نظرة أحادية للمسألة. فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة “تسوّي” بين المبدع وفاقد الإبداع، بل هو أشبه بالطباعة التي أحدثت ثورة في نشر المعرفة، أو بالحاسوب الذي غيّر وجه الكتابة والبحث. كل تقنية جديدة تثير في البداية مخاوف مماثلة، لكنها سرعان ما تصبح جزءاً لا يتجزأ من عملية الإبداع ذاتها.
إن الإبداع الحقيقي لا يكمن في صعوبة الحصول على المعلومات أو في المشقة المادية للكتابة، بل في القدرة على التفكير النقدي، والربط الإبداعي بين الأفكار، والرؤية الشخصية الفريدة، والتجربة الإنسانية العميقة. هذه العناصر لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحلّ محلها، مهما بلغ تطوراً.
الذكاء الاصطناعي: مكتبة ذكية أم لص ماكر؟
وصف الكاتبة للذكاء الاصطناعي بأنه “وعاء تتجمع فيه الإبداعات البشرية” وصف دقيق إلى حدّ كبير، لكن النتيجة التي يخلص إليها تحتاج مراجعة. فالمكتبة العامة أيضاً “وعاء تتجمع فيه الإبداعات البشرية، والباحث الذي يستفيد منها لا يُتهم بالسرقة، بل بالبحث والاستفادة المشروعة.
المسألة إذن ليست في طبيعة الأداة، بل في طريقة استخدامها. الكاتب الذي يأخذ نصاً من الذكاء الاصطناعي وينسبه لنفسه دون إشارة، هو بالفعل سارق. لكن الكاتب الذي يستخدم التقنية كمساعد في البحث، أو مولّد للأفكار، أو محرر للنصوص، ثم يضيف عليها رؤيته وتجربته الشخصية، هو مبدع يستفيد من أدوات عصره.
التحدي الحقيقي: التمييز والتقييم
التحدي الأكبر الذي تطرحه هذه التقنية ليس “لصوصية الإبداع”، بل “صعوبة التمييز بين الاستخدام المشروع والاستخدام المضلّل”. هنا تكمن مسؤولية المؤسسات الثقافية والأكاديمية في وضع “معايير واضحة للتعامل مع هذه التقنية”، تماماً كما وضعت “معايير للاستشهاد والتوثيق في البحث الأكاديمي”.
إن المطلوب ليس محاربة التقنية أو تجاهلها، بل تطوير أدوات نقدية جديدة تمكننا من التمييز بين الإبداع الأصيل والمحتوى المستنسخ، وبين الاستخدام الأخلاقي وغير الأخلاقي للذكاء الاصطناعي.
نـحو شراكة إبداعية
بدلاً من النظر إلى الذكاء الاصطناعي كعدو للإبداع، يمكننا النظر إليه كشريك محتمل يساعد الكاتب على:
• توسيع آفاق البحث: الوصول السريع إلى مصادر متنوعة وشاملة.
• تحرير الطاقة الإبداعية: التخلص من المهام الروتينية والتركيز على الأفكار الجوهرية.
• تطوير الأسلوب: الحصول على اقتراحات لغوية وأسلوبية متنوعة.
• اختبار الأفكار: مناقشة الأفكار وتطويرها قبل صياغتها النهائية.
الـخلاصة: الإبداع لا يُسرق
الإبداع الحقيقي لا يكمن في الأدوات المستخدمة، بل في العقل الذي يوظفها والروح التي تحركها. الشاعر الذي يستخدم قلماً رقمياً ليس أقل إبداعاً من الذي يستخدم قلم الريشة، والروائي الذي يستعين بالذكاء الاصطناعي في البحث أو تطوير الحبكة ليس أقل موهبة من الذي يعتمد على المصادر التقليدية، شريطة أن يكون صادقاً في نسبة الأعمال وواضحاً في منهجيته.
إن المستقبل الثقافي لا يتطلب منا رفض التقنية الجديدة، بل تعلم التعامل معها بحكمة وأخلاق، وتطوير معايير جديدة تحمي الإبداع الأصيل دون أن تقيد الاستفادة المشروعة من أدوات العصر. هكذا نحافظ على جوهر الإبداع البشري ونستفيد من إمكانات التقنية الواعدة، في شراكة تثري الثقافة بدلاً من أن تفقرها.
“والحق أن كل عصر يأتي بأدواته، وعلى المبدعين أن يتقنوا التعامل مع أدوات عصرهم، لا أن يحنوا إلى أدوات الماضي”
هذه دعوة للمحاولة في أن نوازن بين تقدير مخاوف الكاتبة المشروعة وبين تقديم رؤية أكثر شمولية للمسألة. فبدلاً من النظر إلى الذكاء الاصطناعي كتهديد وجودي للإبداع، يمكننا النظر إليه كأداة جديدة تتطلب تطوير أخلاقيات ومعايير جديدة للتعامل معها.
والمطلوب هو نقاش مجتمعي واعٍ حول كيفية الاستفادة من هذه التقنية دون التنازل عن قيم الصدق والأصالة في الإبداع، وهذا ما يتطلب جهوداً مشتركة من الكتّاب والنقاد والمؤسسات الثقافية لوضع إطار أخلاقي واضح للتعامل مع عصر الذكاء الاصطناعي.