عندما يصدر تصريح ما عن أحد الزعماء، يعبر من خلاله عن أطماعه في دولة أخرى، فمن المحتمل أن يتم تأويله على أنه زلة لسان، أو فكرة عشوائية راودته، أما إذا تكرر التصريح ذاته في غضون بضعة أشهر، فلا شك أنه حينئذ يعبر عن رؤية وطموح سياسي وعسكري.
هذا ما حدث مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي صرح في مارس من هذا العام برغبته في إعادة السيطرة على قاعدة باغرام الأفغانية، التي انسحبت منها القوات الأمريكية قبل أربع سنوات، في ظل إدارة سلفه جو بايدن، ثم أعاد الكرة الشهر الماضي بتصريح أكثر حزما، عندما لوّح بأن «أمورا سيئة ستحدث إذا لم تُعِد أفغانستان القاعدة إلى من بنوها»، ويقصد قطعا الأمريكيين، الذين قاموا بإعادة تجهيز وتوسعة القاعدة لا إنشاءها، وإلا فمن بناها هم السوفييت بالتعاون مع الأفغان في خمسينيات القرن الماضي، ثم صارت القلب النابض للسوفييت إبان احتلال أفغانستان.
قاعدة باغرام لم تكن قاعدة عادية، بل ظلت منذ الغزو الأمريكي لأفغانستان، مركزا رئيسيا للعمليات التي تقوم بها الولايات المتحدة والناتو، ومستودعا ضخما للمعدات العسكرية، وجسرا حيويا يصل أفغانستان بالقواعد الأمريكية في آسيا الوسطى والخليج.
عام 2021، انسحبت القوات الأمريكية من القاعدة بشكل فوضوي، مخلّفة ترسانة من المعدات والأسلحة العسكرية للحكومة الأفغانية – استولت عليها طالبان لاحقا- واعتُبر ذلك في الأوساط السياسية والعسكرية، تفريطا من قِبل بايدن بالسمعة العسكرية لأمريكا. رغبة ترامب في العودة إلى قاعدة باغرام تتقاطع مع شبكة معقدة من المصالح الداخلية والانتخابية، والمصالح الخارجية الاستراتيجية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال فصلها عن المتغيرات الدولية والإقليمية، وخريطة النفوذ العالمي. ترامب صرح بأن الدافع للسيطرة على القاعدة، أنها على بعد ساعة من مواقع تصنيع الصين سلاحها النووي، لكن في الحقيقة رغبته تتجاوز هذه النقطة إلى مدى أبعد، فإضافة إلى قلقه من قرب القاعدة من أماكن تصنيع النووي، هو كذلك يرغب في مواجهة التمدد الصيني في القارة الآسيوية بشكل عام، خاصة أن المشروع الصيني المسمى «مبادرة الحزام والطريق»، جعل من أفغانستان ممرا حيويا، فإذا استطاع ترامب السيطرة على القاعدة، فإنه يقطع طريق الصين البري نحو أوروبا والشرق الأوسط، وإحياء تنافس الولايات المتحدة على طرق الطاقة والتجارة، بعدما فقدت فيه واشنطن زمام المبادرة.
ترامب يدرك جيدا أن الوجود الأمريكي في باغرام، سيسهل الوصول إلى الموارد الطبيعية، خاصة التي تدخل في الصناعات التكنولوجية والعسكرية الحديثة، ويدرك كذلك أنه في حال سيطرة الصين على تلك الموارد، فإن ذلك يعني اختلال موازين القوى التكنولوجية في المستقبل القريب. ولا يمكن فصل تصريحات ترامب بشأن القاعدة عن الحسابات الانتخابية، فاتجاهه صوب الخطاب الأمني والعسكري، يعزز التعاطف الذي يحظى به من قبل الجمهوريين، ويعيد إنتاج صورته كرئيس قوي يحرص على مكانة وسمعة وعظمة أمريكا، مقابل الصورة المهترئة التي ظهر بها سلفه جو بايدن، الذي يواجه اتهامات بالضعف والخور في ملفات السياسة الخارجية، كان من بينها الانسحاب من قاعدة باغرام.
خلال تصريحاته عن القاعدة، ساوم ترامب حكومة طالبان بشأن القاعدة، إذ قال: «لقد منحناهم إياها بلا مقابل، ونحن نحاول استعادتها، لأنهم يحتاجون منا إلى أشياء». وقطعا هو يعني حاجة طالبان إلى الاعتراف الدولي بها وحصولها على مقعد في الأمم المتحدة، والإفراج عن مليارات من الأصول الأفغانية المجمدة في الولايات المتحدة. حكومة طالبان ترفض بشكل قطعي التفريط في أي شبر من الأراضي الأفغانية، وأعلنت أنها لن تخضع للابتزاز، أو المساومة على سيادة وكرامة أفغانستان. تأسيسا على كل هذه المعطيات، يُطرح السؤال الأهم: هل تعتبر تصريحات ترامب توطئة لشن عمليات عسكرية ضد أفغانستان، والسيطرة بالقوة على القاعدة؟
احتمالات الغزو في الوقت الراهن ضعيفة جدا لأسباب منها، الكلفة العالية لاستخدام القوة الأمريكية في أفغانستان، ونشر قواتها في بيئة ذات خبرة قتالية عالية ضد الجيوش الكبرى (الروس والأمريكان). ومنها الرفض الإقليمي لفرض الهيمنة على الأراضي الأفغانية، وهو ما ظهر خلال اجتماع موسكو، الذي حضره ممثلون عن طالبان بمشاركة عشر دول بينها الصين وروسيا وإيران، ولئن لم يذكر بيان الاجتماع أمريكا وقاعدة باغرام بشكل مباشر، إلا أن صيغة البيان المشترك جاءت واضحة في هذا الشأن، حيث جاء فيه: «تعتبر محاولات بعض الدول نشر بنيتها التحتية العسكرية في أفغانستان والدول المجاورة أمرا غير مقبول»، ومن ثم لا يمكن للولايات المتحدة تجاهل هذا الرفض الإقليمي.
ولا يفوتني هنا الإشارة إلى المخاوف الروسية – بصفة خاصة – من النفوذ الأمريكي في المنطقة، فروسيا التي استعادت ثقلها السياسي والعسكري في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تنظر بعين الريبة إلى أي نوايا أمريكية للعودة إلى حديقة آسيا الوسطى الخلفية. وهي منطقة ترى موسكو أنها امتداد لأمنها القومي، ولذلك فإنها تعتبر أي وجود أمريكي عسكري في أفغانستان تهديدا مباشرا لحدودها الجنوبية. ومنها أن الاتفاق الأخير حول خطة ترامب بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة، الذي دخل حيز التنفيذ في مرحلته الأولى، قد رفع من رصيد ترامب محليا ودوليا باعتباره مَن قاد عملية السلام الأبرز في الشرق الأوسط، فهل من المعقول أن يقدم ترامب على هذا العمل العدائي الفاقد للشرعية الدولية والذي يطمس معالم صورته التي رسمت مؤخرا عن السلام؟!
فإذا استبعدنا التدخل العسكري الأمريكي في الوقت الراهن، فإن هذه التصريحات الترامبية حول القاعدة، سيستفيد منها في الوقت الراهن في تجميل صورته أمام الجماهير الأمريكية، ودعم الصورة الذهنية التي أراد أن يرسمها منذ حملته الانتخابية، وهو التفاني في الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي ورعاية الهيبة الأمريكية، خاصة إذا ارتبط الأمن القومي في خطابه بمكافحة الإرهاب. كما يستفيد ترامب من تلك التصريحات، لكونها ورقة ضغط على طالبان، من أجل إعادة رسم العلاقات بين الطرفين بما يخدم المصالح الأمريكية، ليجد له موطئ نفوذ في المنطقة، خاصة بعد تنامي العلاقات التي أقامتها أفغانستان مع الصين وروسيا.
وهناك جانب آخر يتعلق بتصريحات ترامب، وهو اختبار مدى التجاوب الدولي وردة الفعل الدولية، إزاء فكرة العودة إلى القاعدة، وفتح المجال أمام تطورات تصعيدية لاحقة، إذا بدا له أن يخوض الحرب، فيبقى المشهد مفتوحا على عدة سيناريوهات، تبدأ بالتصريحات، ومن المحتمل أن تنتهي بخطوات عملية قد تأخذ طابعا سياسيا، أو اقتصاديا، ثم تأخذ شكلا عسكريا إذا ما توفر المناخ الدولي الملائم.