الاستيطان.. قاطرة المشروع الصهيوني

من الخطأ أن يُنظر إلى توسع الاحتلال الإسرائيلي في إقامة المستوطنات بالضفة والقدس على أنه مجرد ممارسة عقارية أو أنه توسع عمراني، لأنه في حقيقة الأمر سلاح استراتيجي يستخدمه الكيان بشكل مدروس وفق منهج استعماري متكامل، لإحداث تغيير ديمغرافي على الأرض بغرض السيطرة الكاملة على فلسطين.

يستند الاستيطان الإسرائيلي إلى عقيدة تعتبر الأرض الفلسطينية أرضا موعودة، وتعتبره الأحزاب الدينية واليمينية في دولة الاحتلال وصية توراتية لا يمكن التنازل عنها، وهذه الرؤية الخطيرة من شأنها أن تلغي الوجود الفلسطيني، وتحول الاستيطان من مشروع سياسي إلى مقدس ديني غير قابل للمناقشة.

الاستيطان يمثل قاطرة المشروع الصهيوني، ولذا يتم تمويله بسخاء من ميزانية دولة الاحتلال، ولأهميته القصوى توفر الحكومة الإسرائيلية للمستوطنين فرص عمل وبنية تحتية متطورة وتعفيهم من الضرائب، كما تستخدم المنتجات الزراعية والصناعية للمستوطنات تحت اسم منتج إسرائيلي يتم تصديره للدول، ومن ثم يصبح الاقتصاد الاستيطاني جزءًا من تبييض الاحتلال دوليا. التوسع الاستيطاني يحظى كذلك بدعم سخي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا، وفي أمريكا وحدها العشرات من المنظمات التي ترسل الدعم المالي إلى المستوطنات، ومن المعلوم أنه قد تأسس في الولايات المتحدة عام 1979 ما يسمى بالصندوق المركزي لإسرائيل لهذا الغرض، كما أن أمريكا تقطع الدعم عن المنظمات الأممية التي تعارض سياسة الاستيطان الإسرائيلي. «الواقع يفرض نفسه»، هو المبدأ الذي يعتمده الاحتلال الإسرائيلي في المشروع الاستيطاني، فمن خلال الضم الزاحف الذي يتم خطوة خطوة دون إعلان رسمي، تصبح كل أرض أقيمت عليها مستوطنة إسرائيلية نقطة ارتكاز لمزيد من التوسع، ومبررًا أمنيا لنشر القوات وبناء الجدران والحواجز، فتتحول ملكية الأراضي من الفلسطينيين إلى الوقوع تحت السيطرة الإسرائيلية. بالتوازي مع ذلك، ترفض الحكومة الإسرائيلية إصدار تراخيص البناء للفلسطينيين، وتصدر الأوامر بهدم بيوتهم بذريعة البناء غير المرخص، وتسيطر على الأراضي المملوكة لفلسطينيين غائبين. وتعد القدس الشرقية هي النموذج الأوضح لتلك السياسات، فمن أجل تكريس ما يسمى «عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل»، تُهدم منازل المقدسيين بحجة البناء غير المرخص، وعلى هذه الأراضي المصادَرة بنيت أحياء استيطانية ضخمة مثل «بسغات زيف» و»هار حوما»، وهو المعنى الصريح للتغيير الديمغرافي.

من أبرز مخاطر الاستيطان تقطيع أوصال المجتمع الفلسطيني، لأن هذه المستوطنات تفصل الوحدة الجغرافية للأراضي وتحيط بالمدن الفلسطينية الكبرى وتقطع تواصلها، وهو ما يعمق من تفتيت المجتمع الفلسطيني.

وهناك تقارير صدرت مؤخرًا تحذر من أن مشروع «إي1» الذي تعمل عليه الحكومة الإسرائيلية لإقامة 3400 وحدة استيطانية جديدة بين القدس الشرقية ومستوطنة معاليه أدوميم بالضفة، سوف يقطع بشكل عملي التواصل الجغرافي الفلسطيني بين شمال الضفة وجنوبها. كما أن التوسع الاستيطاني يفاقم معاناة الفلسطينيين اليومية، فيحولها إلى جحيم لا ينقطع بسبب الاقتحامات والاحتكاكات والاستفزازات اليومية من قبل المستوطنين ونقاط التفتيش الإسرائيلية، فيزرع من خلال ذلك الإحساس بالعجز لدى الفلسطينيين وتقليص آمالهم في التحرر، بهدف خلق جيل مستسلم للأمر الواقع. التوسع الاستيطاني هو دليل قطعي على الأهداف الصهيونية التي يتبناها اليمين الإسرائيلي الذي يهيمن على القرار السياسي، لأنه لا يترك مجالا أو فرصة حقيقية لإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، ومن ثم يتحول مشروع حل الدولتين الذي تنادي به الدول العربية إلى وهم لا يمكن تطبيقه، لأن ذلك يستلزم تفكيك المستوطنات، وهو غير قابل للمناقشة لدى الدوائر السياسية في الداخل الإسرائيلي.

المجتمع الدولي يكتفي إزاء التوسع الاستيطاني بالشجب والإدانة دون اتخاذ أية إجراءات عملية للحد منه، وذلك على الرغم من أنه يمثل اختراقا واضحا للقانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة، بينما الدول العربية مع تفرق كلمتها وضعفها، أبعد ما يكون عن التصدي للاستيطان.

إن كانت مواجهة الاستيطان صعبة كصعوبة مواجهة المشروع الصهيوني بشكل عام، فإنه لا أقل من تنشيط الدعوة إلى حملات دولية لمقاطعة الاقتصاد الاستيطاني، والضغط على المتاجر العالمية لوقف بيع منتجات المستوطنات، والاستفادة من النخب والمنظمات اليهودية المعارضة للاستيطان في الخارج للضغط باتجاه وقف تمويل المستوطنات.

كذلك على النشطاء تفكيك الرواية الإسرائيلية التوراتية أمام شعوب العالم التي تبرر الاستيطان، إضافة إلى كشف سياسات وممارسات الدول والمنظمات الداعمة للتوسع الاستيطاني في فلسطين.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

المرتزقة في السودان…تهديد للأمن الداخلي وفوضى عابرة للحدود

في أغسطس/آب المنصرم، وجّهت القوات الجوية السودانية ضربة محكمة إلى مطار نيالا في إقليم دارفور، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *