إسطنبول / إحسان الفقيه / الأناضول
– تطلع السلطان عبد الحميد إلى ربط الحجاز وغيرها من الولايات العربية بإسطنبول، للحفاظ على هذه الدولة مترامية الأطراف، والتي دب فيها الضعف، فأصدر أوامره عام 1908م بإنشاء خط سكة حديد من دمشق إلى المدينة المنورة مرورا بالعديد من المدن العربية، على أن يمتد الخط إلى مكة..
– حرص عبد الحميد على أن تكون أموال المشروع إسلامية خالصة وبأيدي عثمانية، فقام بعدة إجراءات تعوض عجز الخزانة، وهب المتبرعون من الأقطار الإسلامية للإسهام في هذا المشروع..
– اتخذت بريطانيا وفرنسا مواقف عدائية تجاه المشروع وحاولتا إحباطه لأنه يتعارض مع مصالحهما في المنطقة، إلا أن تلك المحاولات لم تثن الدولة العثمانية عن إتمامه..
– تم العمل في المشروع من عام 1900م، وتم افتتاحه عام 1908م بعد وصول الخط إلى المدينة المنورة محطته الأخيرة، وحالت مخاوف شريف مكة على نفوذه التجاري من مد الخط إلى مكة.
– كان للمشروع آثار إيجابية منها تسهيل نقل الحجاج إلى الأراضي المقدسة، وازهار الصناعات والزراعات في البقاع التي يمر بها الخط.
– تقدر المدن والمراكز السكنية الواقعة على مسار خط الحجاز بنحو خمسين مدينة ومركز، وأقيمت عدة خطوط فرعية كذلك بعد افتتاح المشروع عام 1908.
– تعرض الخط لهجمات مدمرة من قبل بدو الحجاز بإيعاز وتوجيه من جواسيس وعملاء بريطانيا إبان الحرب العالمية الأولى.
“امتدّ انتظاره دهراً والحمْل به عمراً، حملَته أمه ثماني سنين، من سنة 1901 إلى سنة 1908، وعاش بعدما وُلد عشر سنين من سنة 1908 إلى سنة 1918، ثم أصابته علّة مزمنة، فلا هو حيّ فيُرجى ولا ميت فيُنسى، الخط ممدود ولكن لا يمشي عليه قطار، والمحطات قائمة ولكن لا يقف عليها مسافر. كانت فيها مواقف الوداع والاستقبال تشهد الآلام والآمال، وكان فيها الناس من كل بلد وكل شعب، فأصبحت لا غادٍ عليها ولا رائح منها، ولا مودّع أسيان (حزين)، ولا مُستقبِل فرحان”.
بهذا المقطع الأدبي البليغ، جسّد الأديب الراحل علي الطنطاوي ملحمة إسلامية كانت أعظم إنجازات القرن العشرين، كان العالم الإسلامي ينتظرها، على طريق حلم بعْث الوحدة الإسلامية.. إنه خط حديد الحجاز، الذي أنشأه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، بسواعد وأموال إسلامية، تضافر فيها المسلمون من ترك وعرب وعجم، ولكن ليس بعد التمام إلا النقص، تفككت الدولة العثمانية، ولحق الخراب بخط الحجاز الحديدي.
في خضم المؤامرات الخارجية والاضطرابات الداخلية وتدهور الاقتصاد وخلوّ الخزانة في الدولة العثمانية، كان للسلطان عبد الحميد حلمٌ يتمثل في ربط الحجاز وغيرها من الولايات العربية بالعاصمة إسطنبول، للحفاظ على هذه الدولة مترامية الأطراف، والتي دب فيها الضعف ووصفها الأوروبيون بالرجل المريض، فأصدر أوامره عام 1908م بإنشاء خط سكة حديد من دمشق إلى المدينة المنورة مرورا بالعديد من المدن العربية، على أن يمتد الخط إلى مكة، إلا أن مخاوف شريف مكة على تجارته حالت دون قبوله لهذا الأمر، فتوقف الخط إلى حيث المدينة.
أهداف المشروع:
تضافرت عدة دوافع لإنجاز هذا المشروع، منها ما هو ديني، ومنها ما هو سياسي وعسكري:
أولًا: يعد المشروع إحدى مفردات المشروع الأكبر وهو إقامة الجامعة الإسلامية، حيث يهدف مشروع خط الحجاز إلى ربط الولايات العربية المتباعدة، والحفاظ على الوحدة الطبيعية لتلك الولايات، وبعث روح الوحدة الإسلامية، للصمود أمام التحديات الخارجية، فكان السلطان يعلم أن هذه الفعاليات ستمكن العالم الإسلامي من استعادة مكانته في التوازن العالمي الجديد، ويعزز سلطته كخليفة للمسلمين.
ثانيًا: تيسير وصول الحجاج والمعتمرين إلى الحرمين، حيث كانت تصل رحلة الحج إلى شهرين ويزيد تحت وطأة الظروف المناخية القاسية، فضلا عن التعرض إلى أخطار قطّاع الطرق، ويذكر الدكتور متين هولاكو في كتاب “الخط الحديدي الحجازي المشروع العملاق للسلطان عبد الحميد”، أن عدد الحجاج قبل إنشاء خط حديد الحجاز كان لا يتجاوز 80 ألف حاج، فازداد عدد الزائرين للأراضي المقدسة إلى 300 ألف زائر، واختصر المسافة التي كان تقطع في أربعين يوما وتصل لشهرين أو يزيد، إلى ثلاثة أيام فقط.
ثالثا: تسهيل مهمة الدفاع عن الدولة العثمانية في أي جبهة تتعرض للاعتداء، حيث يساعد هذا الخط الحديدي على سرعة نقل القوات العثمانية إلى الجبهات وتوزيعها.
رابعًا: تعزيز سلطة الدولة في غرب الحجاز باستيعاب تلك الولايات التي لا تخضع للدولة بصفة تامة، ودفْع هذه الولايات وغيرها إلى الامتثال للقوانين العسكرية العثمانية التي تقضي بالدفاع المشترك عن دولة الخلافة.
ملحمة الإنجاز:
“إنشاء سكة حديد الحجاز هو حلمي القديم” من هذا الحلم انطلق السلطان، فأصدر أوامره بإنشاء الخط في مايو عام 1900م، وقرر أن يكون المشروع بأموال إسلامية خالصة فلم يلجأ للاقتراض، وشكل هيئة عليا من خيار رجال الدولة على مختلف تخصصاتهم، ترأّسَها عربيّ، وهو عزت باشا العابد من دمشق، حيث كان السلطان يُقرّب إليه العرب، ولما كانت الميزانية المُخصصة للمشروع من خزانة الدولة (18%) لا تكفي لإنجازه، فقد أمضى السلطان عدة إجراءات لسد النقص حتى لا يلجأ للاقتراض من الدول الأجنبية.
وجّه السلطان نداء للعالم الإسلام بأسره للتبرع من أجل هذا المشروع الذي يكون مِلْكا للأمة، وبادر هو بنفسه للتبرع من ماله الخاص بمبلغ خمسين ألف ليرة عثمانية، وقرر دفع مائة ألف من صندوق المنافع، وأصدر قرارا بخصم 10% من رواتب الموظفين لصالح المشروع، إضافة إلى إجراءات أخرى منها التبرع بجلود الأضاحي وبيعها لصالح المشروع.
وكانت بحق ملحمة تشارك فيها المسلمون من شتى البقاع، ابتداء من رجال السلطان وصدره الأعظم، والذين بادروا بالتبرعات هم وكبار رجال الدولة وتجّارها وأعيانها.
وأما العرب فقد هبوا للتبرع لهذا المشروع الإسلامي العظيم، فتوالت التبرعات من الموظفين في الولايات العربية، من بيروت ودمشق وحلب وغيرها، وشارك في هذه التبرعات خديوي مصر، وشكلت في مصر لجنة الدعاية للمشروع وجمع التبرعات له برئاسة أحمد باشا المنشاوي، وشاركت الصحافة المصرية بقوة في حملة الدعاية، وأبرزها المنار، والرائد المصري، وشكلت لجان في مدن مصر للتبرع، وجمعت جريدة اللواء المصرية التي يترأسها الزعيم مصطفى كامل وحدها تبرعات بحوالي ثلاثة آلاف ليرة عثمانية.
وأما عن المسلمين من غير العرب، فيقول الدكتور محمد حرب: “كان مسلمو الهند أكثر مسلمي العالم حماسًا وعاطفة وتبرعا للمشروع، وقد تبرع أمير حيدر آباد بالهند بإنشاء محطة المدينة المنورة في المشروع، كما تبرع شاه إيران بمبلغ خمسين ألف ليرة عثمانية”.
موقف أوروبي حاقد:
كانت بريطانيا أكثر الدول قلقا من المشروع، فبعد أن ظنت على إثر الحرب الروسية العثمانية أن الدولة العلية دخلت مرحلة الانهيار، فوجئت بالمشروع الذي قلب تصوراتها رأسا على عقب، وبدا لها أن العثمانيين يستعيدون نفوذهم في المنطقة، خاصة وأن الدولة العثمانية لن تكون بحاجة إلى قناة السويس التي تسيطر عليها بريطانيا، والتي سعت لإفشاله عن طريق منع التبرعات الوافدة من المسلمين في شتى البلاد، وبثت أكاذيبها من خلال الجرائد التي تصدرها في مستعمراتها بأن الدولة العثمانية غير قادرة على إتمام هذا المشروع، وأن الأمر لا يعدو أن يكون دعاية لتنهب بها الدولة أموال المسلمين المتبرعين.
ولما كانت الدولة العثمانية تمنح المتبرعين أوسمة، فقد منعتهم بريطانيا من تعليقها على صدورهم، كما قدمت بريطانيا اعتراضها على عبور الخط من “معان” الأردنية ووصوله إلى خليج العقبة، وبعد أن تم المشروع عملت على إفشاله بكل قوتها إبان الحرب العالمية الأولى.
ولم يختلف موقف فرنسا كثيرا عن بريطانيا، فعارضت بشدة إنشاء خط بين القدس والعفولة، للحفاظ على نفوذها في سوريا وفلسطين، إلا أن ذلك لم الأتراك عن إنجاز هذا المشروع.
اعتراضات حجازية:
لاقى المشروع اعتراضات من قِبل بعض سكان البادية الحجازية، ومن قِبل شريف مكة الذي كان يخشى على تجارته التي كانت تقوم على نقل الحجاج على الرواحل، وظن أن سكة حديد الحجاز سوف تقضي على هذه التجارة، إلا أن علماء الشريعة والمثقفين تصدوا لهذه الشائعات والأقاويل، ومنهم محمد عارف الدمشقي إمام الشافعية في الشام، والذي جعل يُعدد فوائد هذا المشروع لأهل مكة والمسلمين عامة.
فمنها: تكثير عدد الحجاج إلى عشرين أو ثلاثين ضعفا.
ومنها: أنه يمكِّن الدولة من إرسال ما تحتاج إليه هذه المناطق إذا لزم الأمر، فيصل إليها في أقرب وقت وهو مُصان عن أيدي قطاع الطرق.
ومنها: تسهيل نقل المحاصيل الزراعية على المزارعين في هذه البقاع فلا تفسد، إضافة إلى تقليل سعر أجرة النقل فتزيد أرباحهم.
ومنها: تسهيل إنشاء مكاتب في الأراضي التي يمر بها الخط الحديدي، فمن ثَم تنشط الصناعات لديهم، وهذا يُمكّنهم من الاستغناء عن شراء ما يحتاجون من خارج البلاد.
ومنها: أن هذا الخط سوف يسهل اكتشاف المعادن في تلك الأراضي واستخراج خيراتها، الأمر الذي يترتب عليه ازدهار هذه المناطق وثراء أهلها.
ومنها: تأسيس المدنية والحضارة فيهم، وانتشار المعارف والعلوم بينهم، وتحقيق الأمن لهم ولأبنائهم.
ومنها: استخدام الدولة العثمانية لبعض أفراد هذه المناطق للعمل في المنظومة.
ومنها: التكسب من بيع منتجاتهم وأطعمتهم للركاب في محطات وقوف القطار.
ثم ساق الدمشقي أدلة دامغة على أن عدد الجمال التي يؤجرها بدو الحجاز من ينبع إلى المدينة المنورة للزوار والحجاج سوف يزداد بعد مد السكة الحديدية أضعافا مضاعفة، وذلك ردا على المخاوف التي أبداها البدو، وبسط ذلك كله في كتابه المعروف بـ “السعادة النامية الأبدية في السكة الحديدية الحجازية”.
المشروع يرى النور:
على الرغم من أن افتتاح إنشاء المشروع تم عام 1908م حين وصل إلى آخر خطوطه بالمدينة المنورة، إلا أنه كان يتم تشغيل الخطوط التي جرى إنشاؤها قبل ذلك، فبدأ الخط بين دمشق ودرعا في سوريا في سبتمبر 1900م، وأقيمت على إثر ذلك احتفالات رسمية تزامنت مع ذكرى تولي السلطان العرش، ثم ظل الخط يمتد شيئا فشيئا مرورا بمحطات أساسية، فمن درعا إلى عمّان، فإلى الزرقاء، فإلى قطرانة، فإلى معان، ثم من ذات الحاج إلى العلا، ثم إلى المدينة، والتي انتهى إليها الخط عام 1908م في ظل احتفالات ضخمة بوصول الخط إلى أرض الحرم المدني.
وتُقدر المدن والمراكز السكنية الواقعة على مسار خط الحجاز بنحو خمسين مدينة ومركز.
وكان لهذا الخط خطوط أخرى فرعية، ومن خلالها وصل الخط إلى مناطق شرقي المتوسط، حيث أنشئت على سبيل المثال عام 1908م خطوط فرعية ممتدة بين بيروت ودمشق، وأضيف 168كم لخط حيفا الموجود بالأراضي الفلسطينية، وبذلك وصل الخط إلى درعا، وبلغ طول الخط في عهد السلطان عبد الحميد إلى 5.792 كم.
تم تشييد منشآت عديدة ملحقة بهذا المشروع، كمحطات استراحات للركاب، وأنفاق وجسور، وقام السلطان بمد خطوط برقية على طول خط السكة الحديدي، ما ساعد في إنشاء فروع ومكاتب بريدية بين إسطنبول والمدينة، وقد كانت حركة القطار ومواقفه منظمة حسب أوقات الصلوات الخمس، وخصصت إحدى قاطراته كمسجد متنقل تقام فيه الصلوات وعين له إمام للصلاة.
ومن الخدمات التي قدمها هذا الخط، حمْل الصُّرة السلطانية المعتادة إلى الأراضي المقدسة عن طريق القطار، بعد أن كانت تحمل عن طريق البر ثم البحر.
مصير مؤلم:
في تقريره السنوي الأول لعام 1907م، رفع السفير البريطاني في عاصمة الدولة العثمانية تقريرا إلى قيادته يقول فيه: “بين حوادث السنوات العشر الأخيرة عناصر بارزة في الموقف السياسي العام، أهمها خطة السلطان الماهرة التي استطاع أن يظهر بها أمام 300 مليون من المسلمين في ثوب الخليفة الذي هو الرئيس الروحي للمسلمين، وأن يقيم لهم البرهان على قوة شعوره الديني، ببناء سكة حديد الحجاز”.
فلا عجب أن تسعى بريطانيا لتدمير المشروع، وقد كان لتأليبها بدو الحجاز – عن طريق عميلها “لورنس” – على الدولة العثمانية، أثر بالغ في تخريب خطة السكة الحديد، فحرضت رؤساء القبائل العربية على العثمانيين ووعدتهم بالملك حال الإجهاز على الدولة، ففي عام 1916م ثارت القبائل بزعامة الشريف حسين شريف مكة، وقاموا بتوجيه من ضباط وجواسيس الإنجليز أبرزهم لورنس العرب، بشن هجمات على خط سكة حديد الحجاز.
كان هدف بريطانيا الأساسي هو منع نقل الجنود العثمانيين إلى الأراضي الحجازية عبر الخط إبان الحرب العالمية الأولى ثم تعطيله بالكلية، وبعد انتهاء الحرب العالمية وتقسيم الدولة العثمانية انطفأت شمس هذا المشروع الكبير، وصارا أثرا بعد عين، وبقيت أطلاله وقضبانه القديمة شاهدة على أعظم إنجازات المسلمين في القرن العشرين، وكأنها بقيت ذكرى يدق ناقوسها على رؤوس الغافلين بضرورة بعث الوحدة الإسلامية من جديد.
لله درك يا أستاذة، مقال رائع ومهم جزاك الله خيرا ورحم السلطان،