عندما طرح يوسف عليه السلام نفسه أمام ملك مصر لتولي الشؤون المالية للبلاد، قدم مسوغات التعيين {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف: 55]. قال الإمام ابن كثير في تفسيره: «{حفيظ} أي: خازن أمين، {عليم} ذو علم وبصر بما يتولاه»، فقد جمع مع مؤهل الأمانة والنزاهة مؤهلا آخر يتعلق بالقدرة والقوة وهو مؤهل العلم.
وعندما طلبت إحدى ابنتي شعيب من أبيها استئجار موسى عليه السلام بعدما سقى لهما، بيّنت مؤهلاته لهذه المهمة {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } [القصص: 26]، فاستدلت على قوته برفعه الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، واستدلت على أمانته بأنه أمرها أن تمشي خلفه فإذا حاد عن الطريق قذفت حصى ليهتدي بها، وذلك صونا لحيائها من أن ينظر إليها وهي تسير أمامه.
وفي قصة سليمان عليه السلام، يخبرنا القرآن عن ذلك الاجتماع الذي دار حول عرش بلقيس، واستطلاع سليمان الرأي لمن يستطيع الإتيان بعرشها، تقدم عفريت من الجن للمهمة ومعه مؤهلاته {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39].
العامل المشترك في هذه المواقف القرآنية، هو اجتماع عنصري القوة والأمانة للتصدر في الأمور العامة وتولي مسؤوليات الآخرين، وهما المؤهل الذي ينبغي توافره فيمن يريد أن يكون جزءًا من أي عملية نهضوية.
هذا بدوره يقودنا إلى حقيقة هامة، أنه لا يكفي أن يكون المرء صالحا ملتزما بشرع الله (أي حاز مؤهل الأمانة) حتى يتولى المسؤوليات العظيمة، فلابد وأن يجتمع إليه القدرة والمهارة التي يتطلبها القيام بأمر الناس (أي مؤهل القوة).
هذه الحقيقة كانت ماثلة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى سبيل المثال يشيد بجانب الأمانة لدى الصحابي أبي ذر الغفاري فيقول: (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر)، وهو نفس الصحابي الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم من تولي الإمارة حيث قال له: (يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، فلا تولين إمرة اثنين).
فهو وإن كان تقيا ورعا صالحا، به ضعف فيما يتعلق بالقيام على المسؤوليات العامة للناس، ووفقا للمعايير النبوية، قاد خالد بن الوليد رضي الله عنها جيشا فيه من الصحابة من هم أكثر منه تقوى وورعا، ذلك لأنه فاقهم في وضع الخطط الحربية والقدرة على إدارة المعارك.
فهذا معيار لا ينبغي أن يتخلف فيمن يتولى أمور الناس (القوي الأمين)، حتى في الوظائف الحكومية لابد من اعتبار هذا المعيار، فالموظف إن كان صالحا أمينا وله مع ذلك ضعف دراية بالعمل، سيكون عمله قاصرا، وإن كان صاحب مهارة وقدرة لكن له مع ذلك فساد في الأمانة والورع والدين، فسوف يكون تعيينه بهذا المنصب وبالا على العمل وبابا للشر قد فُتح، وحدِّث ولا حرج عن الرشوة والاختلاس واستغلال المنصب في التربح ونحوه.
وعبر مراحل التاريخ الإسلامي لم يطرح العلماء الصالحون أنفسهم لحكم البلاد وفيها من هم على قدر أقل من الصلاح والدين، لكنهم في الوقت نفسه أقدر على سياسة البلاد، نظرًا لأن العلماء غالبا يكونون منغمسين في العلم النظري والبحث والقياس، بعيدين عن دهاليز السياسة ومنعطفاتها، لذلك كان العلماء يقومون بدور المراقب والضابط لأداء السياسي، كما كان حال العز بن عبد السلام مع السلطان سيف الدين قطز، والقاضي شداد مع صلاح الدين الأيوبي، وغيرهم.
معيار القوة والأمانة هو الأساس في كل من يتصدر لشؤون الناس والمسؤوليات الجسام، بدءًا رأس الدولة وانتهاءً بأصغر عامل فيها، وإن اعتماد مؤهليّ القوة والأمانة في الاختيار هو الأساس في صناعة أي نهضة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ما شاء الله احترم معلوماتك وثقافتك لا بد من انك مطلعة على الكثير من الكتب والمعلومات ، الله يزيدك معرفة حتى تنيري الظلمة الحالكة في مجتمعاتنا بارك الله فيك