لماذا أريد دراسة القانون من الصفر.. رغم أنني أطرق أبواب السابعة والأربعين؟

-لأنّ القانون في جوهره ليس مهنةً فحسب، بل منهج في التفكير، ونافذة تطلّ على فلسفة الاجتماع البشري وكيف تُدار الأمم…

القانون علمُ الدولة وهي تُفكّر، وصوتُ العدالة وهي تُحاول أن تتجسّد في نصوص بشرية قاصرة عن الكمال.

أريد أن أدرسه لأنّني رأيتُ كيف تُبنى الأمم أو تُهدم بالقانون ..

وأدركتُ كيف يمكن لنصٍّ واحد أن يرفع المظلوم أو يُكرّس الظلم ..و كيف يُمكن أن تتحوّل العدالة من فكرة مجرّدة إلى منظومة قادرة على ضبط سلوك الإنسان والسلطة معا ..

فهمتُ متأخرةً -رغم كل محاولاتي السابقة في أن أستقرّ في بلد وأدرس في جامعة بشكل نظاميّ دون تنقّل تجبرني عليه الظروف بعد فصل أو عدّة فصول.. فهمتُ أن القانون ليس موادّ تُحفظ، بل عقلٌ يُدرّب على التحليل والمنطق والاستنباط،

وأنّ المحامي الحقيقي هو فيلسوفٌ يقرأ المجتمع من خلال نصوصه، ويقرأ النصوص من خلال حركة التاريخ…

فدارس القانون لا يبحث عن الأجوبة الجاهزة، بل عن المنهج الذي يقوده إلى الحقيقة، ولهذا قال مونتسكيو: «حيثما يوجد قانون قوي، توجد دولة عادلة».

القانون يتيح لي أن أفهم لماذا تفعل الحكومات ما تفعل، ولماذا يطيع الناس أو يتمرّدون، ولماذا تتغيّر السياسات حين تتغيّر المصالح، وكيف تُصاغ الإرادة العامة في قالب إلزامي اسمه التشريع.

ومن خلاله أرى خيوط الاقتصاد والسياسة والاجتماع متشابكة في نسيجٍ واحد، وأفهم كيف يوجّه النظامُ العام الناسَ إلى سلوكٍ بعينه باسم “المصلحة العامة”، وكيف يُعاقَب من يخرج عن هذا الإطار…

أما المهنة ذاتها فهي تربية على المنطق والبحث والبرهان….

فالمُحامي المُفكّر لا يحفظ النصوص بل يختبرها بالعقل، يُفكّكها ويُعيد تركيبها ليصل إلى العدل لا إلى الانتصار الجدلي…

وهنا يُصبح دارس القانون أشبه بعالمٍ في الاجتماع الإنساني؛ يُحلّل لا ليُدين، ويستنبط لا ليُقلّد، بل ليُفكّر كما يُفكّر المشرّع، لا كما يُردّد الطالب.

ثم إنّ دراسة القانون في هذا العمر ليست تأخّرًا، بل عودةٌ إلى أصل الحكمة؛

فحين تتراكم التجربةُ فوق التجربة، يصبح فهم العدالة أعمق وأصدق…

قال أرسطو: «نحن لا نطلب العدل إلا حين نتألم من غيابه».

ولطالما غيّبه الله عن حياتي … ولله الحمد على كل حال..

القانون ليس مجرّد تخصّص لفتح باب المرافعات فحسب، بل قواعده وبنوده وفلسفة تشريعاته وإقرارها؛ تفتح أبواب الإدارة والسياسة والفكر والإقتصاد، لأنّ من يفهم القانون يفهم كيف يُصنع القرار، وكيف تُضبط السلطة، وكيف تُصان الحرية دون اعتداء على حقوق الآخرين أو حقوق الدولة نفسها…

لهذا لم يكن عبثًا أن يُحكمَ العالم مرارًا بأيدٍ درست القانون؛ من لينكون الذي وحّد بلاده باسم العدالة، إلى أوباما الذي أعاد للخطاب السياسي نبرة العقل، إلى قادةٍ عرب نهضوا من مقاعد كلية الحقوق إلى مواقع القرار.

أدرس القانون لأنني أومن أن الأمم لا تنهض بالشعارات بل بالأنظمة، ولا تُحكم بالعاطفة بل بالعدالة، وأنّ العدالة لا تسكن الخطب بل تسكن القوانين.

أدرسه لأنّني أريد أن أفهم، لا أن أجادل، وأن أُسهم في إعادة الإنسان إلى مركز المعادلة، لا أن أتركه رهينةً لقوانين بلا روح.

===

سنفورة سنة أولى قانون في جامعة عجلون الوطنية

ما أجمل الرجوع إليكَ يا بلدي ..

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

اقتصاد الانتباه: حين تصبح أنت السلعة

في زمن اقتصاد الانتباه، لم يعد العقل ملكا لصاحبه، بل سلعة تتنافس عليها القوى الكبرى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *