يعد منصب المفتي العام للملكة العربية السعودية أرفع منصب ديني وقضائي في المملكة، ويتم تعيينه بأمر ملكي يصدر من خادم الحرمين، ويرأس هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية.
تم إنشاء هذا المنصب عام 1953 بناء على أمر صادر من الملك عبد العزيز آل سعود في آخر حياته، إذ ملأ هذا المنصب الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وظل المنصب شاغرًا بين عامي 1969-1993، إلى أن قام الملك فهد بتعيين الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في منصب مفتي عام المملكة، ثم تولى بعده الشيخ عبد العزيز آل الشيخ والذي توفاه الله في الشهر المنصرم.
عقب وفاة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ صدر أمر ملكي بأن يخلفه على ذلك المنصب، الشيخ صالح الفوزان، والذي يعد أحد أشهر علماء المملكة المشهود لهم بغزارة العلم والبذل المتواصل في خدمة الدعوة إلى الله.
ولد الشيخ الفوزان في سبتمبر/أيلول 1935 لأسرة من الوداعين من عشيرة آل شماس قبيلة الدواسر، في بلدة الشماسية بمنطقة القصيم.
توفي والده في سن مبكرة، فتعلَّم القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة على يد الشيخ حمود بن سليمان التلال، إمام مسجد البلدة آنذاك، الذي تولّى لاحقاً القضاء في بلدة ضرية بالقصيم.
تتلمذ الشيخ صالح الفوزان على أيدي عدد من كبار العلماء والفقهاء، من أبرزهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي المملكة الراحل، والشيخ عبد الرحمن السعدي صاحب تفسير “تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان”، والشيخ عبد الله بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء سابقاً، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله الخليفي، والشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي، وعدد من شيوخ الأزهر المنتدبين في الحديث والتفسير واللغة.
التحق بمدرسة حكومية عند افتتاحها في الشماسية عام 1369هـ، وأكمل تعليمه الابتدائي في المدرسة الفيصلية ببريدة عام 1371هـ، ثم واصل دراسته في المعهد العلمي ببريدة منذ افتتاحه عام 1373هـ حتى تخرجه منه عام 1377هـ.
انتقل بعدها إلى الرياض ليلتحق بـكلية الشريعة، حيث حصل على درجة البكالوريوس عام 1381هـ الموافق 1961م. ثم نال درجة الماجستير في الفقه بتخصُّص علم المواريث، وكانت رسالته بعنوان “التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية”، تلتها درجة الدكتوراه في الفقه بدرجة الشرف عن أطروحته “أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية” من الكلية نفسها.
بعد تخرُّجه في كلية الشريعة، بدأ الشيخ الفوزان مسيرته العملية مدرساً في المعهد العلمي بالرياض، ثم نُقل للتدريس في كلية الشريعة، وبعدها إلى قسم الدراسات العليا بكلية أصول الدين، ثم إلى المعهد العالي للقضاء الذي تولّى إدارته لاحقاً قبل أن يعود إلى التدريس فيه بعد انتهاء مدة عمله الإدارية.
أشرف الشيخ على عدد كبير من الرسائل العلمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، كما عمل إماماً وخطيباً ومدرساً في جامع الأمير متعب بن عبد العزيز آل سعود في حي الملز بالرياض.
تولّى عدة مناصب علمية ودعوية، منها:
عضوية اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضوية هيئة كبار العلماء
عضوية المجمع الفقهي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي
عضوية لجنة الإشراف على الدعاة في الحج
كما له مشاركات علمية منتظمة في المجلات المتخصصة، من خلال نشر بحوث ودراسات ورسائل وفتاوى، جُمع عدد منها وطُبع لاحقاً. وتتلمذ على يديه كثير من طلاب العلم الذين يلازمون دروسه ومحاضراته العلمية المستمرة.
للشيخ الفوزان إنتاج علمي غزير، أحصيتُ منه حوالي خمسين مصنفًا، ومع هذا تجده يقول في تواضع: “أنا لست من هواة التأليف، ولكن هناك أشياء أكتبها للضرورة فقط أو أكتبها لأشياء، فإذا تجمَّعت لديّ رأيت أن إهمالها مضيَعة، فأقوم بتهذيبها وطبعها، وإن شئت أن تُسمِّيها مؤلّفات، ولو كنت أنا لا أرى أنها مؤلفات، وإنما هي بالأصح ميسّرات أو أوراق”.
هذا بخلاف المكتبة الصوتية الهائلة للشيخ والتي تضم مئات المحاضرات في شروح المتون والموضوعات العامة.
اشتُهر الشيخ الفوزان بعلاقته الوطيدة بالعلامة الراحل الشيخ عبد العزيز بن باز، إذ كان الأخير مُعلمه، كما أنه صار زميلا له في العمل في هيئة كبار العلماء، وقد تواترت الأخبار عن الشيخ ابن باز عندما سئل: من نسأل بعدك من أهل العلم؟ فقال: الشيخ صالح الفوزان، فقيل: نسأل فلانا؟ قال: فلان فقيه، ولكن اسأل الشيخ صالح الفوزان.
وقد وجه الشيخ محمد المنجد الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في مرض موته: من تنصحني أسأل بعدك؟ فقال: الشيخ صالح الفوزان وفلان وفلان.
وقال الإعلامي عبد الكريم بن صالح المقرن في مقال له في جريدة الجزيرة عام 1430ه: ركب الشيخ ابن عثيمين ثم التفت إليّ قائلا: هذا الشيخ صالح الفوزان؟ -وكان يسمعه في الإذاعة- قلت: نعم يا شيخ، هذا برنامج نور على الدرب، فابتسم الشيخ بن عثيمين رحمه الله فقال: ما شاء الله، القلب يرتاح لفتاوى الشيخ صالح الفوزان.
وقال الدكتور سعد بن ناصر الشثري عن الشيخ الفوزان: “الشيخ الفوزان من أئمة الدين ومن أعلام أهل السنة والجماعة، وممن عرفوا بالعلم والفضل وممن كانت لهم المكانة العظيمة في نشر دين الله، وقد عرفته في سنوات الطلب، ثم عرفته في زمالته لوالدي، ثم عرفته من خلال زمالتي له من خلال عضوية اللجنة الدائمة للإفتاء وهيئة كبار العلماء، فلم أعرف عنه إلا الفضل والعلم والعقل والفضل وتقدير عواقب الأمور وسلامة الصدر وحسن الخلق”.
وفي سؤال للشيخ عبد الله القصير عن الشيخ الفوزان، أجاب: أستاذي الأول، الشيخ صالح يربيك على العقل والثقل، مهيب جدا، يملأك عقلا، وتربيته عجيبة”.
وقد عرف عن الشيخ الفوزان شدة عنايته بعقيدة أهل السنة والجماعة، وكثير من دروسه تتناول مسائل العقيدة وشروح متونها، ويبرز ويؤكد على المسائل العقدية التي خالفت فيها الفرق كحقيقة الإيمان، فيقول: (الذين يقولون إن الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان ولا يدخل فيه العمل وهذا قول مرجئة الفقهاء وهو قول باطل).
كما يحرص على التشديد على قضية التهاون في التكفير، فيقول: “قضية التكفير وما دار فيها هذه الأيام من أخذ ورد وهي مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وقد حصل فيها الخلط واللبس من قديم بين إفراط وتفريط، وغال وجاف من أصحاب الأفكار المنحرفة البعيدة عن فهم الكتاب والسنة. فأهل الإفراط والغلو من الخوارج ومن سار في ركبهم من المعاصرين عن قصد أو عن جهل يرون أن مرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك والكفر يكفر بها الكفر المخرج عن الملة بناء على أخذهم بنصوص الوعيد وتركهم لنصوص الوعد”.
وما نُسب إلى الشيخ من أنه يطلق أحكام الكفر في حديثه على الآخرين فهو محض افتراء، بل محض جهل أيضا، لأنه عندما يتحدث عن التكفير فإنه يتحدث عن الحكم العام، لكنه لا يكفر الشخص بعينه.
الشيخ الفوزان على الرغم من صرامته وحزمه، فإنه ينتقد الخصوم بموضوعية دون التطاول كما دأب البعض، فهو على سبيل المثال يخالف الأستاذ سيد قطب رحمه الله صاحب الظلال، لكنه يتحدث فيه برأيه دون تجريح، لكنه يتحدث فيه برأيه دون تجريح، فيقول: “أما “ظلال القرآن” فهو تفسير مجمل نستطيع أن نسميه تفسيراً موضوعياً فهو من التفسير الموضوعي المعروف في هذا العصر، لكنه لا يُعتَمد عليه لما فيه من الصوفيات، وما فيه من التعابير التي لا تليق بالقرآن مثل وصف القرآن بالموسيقى والإيقاعات، وأيضاً هو لا يعنى بتوحيد الألوهية، وإنما يعنى في الغالب بتوحيد الربوبية وإن ذكر شيئاً من الألوهية فإنما يركز على توحيد الحاكمية، والحاكمية لاشك أنها نوع من الألوهية لكن ليست وحدها هي الألوهية المطلوبة”.
كما أن الشيخ الفوزان شديد العناية بمسألة الاتباع وعدم الابتداع، فقال بشأن المحدثات في الدين والتي يستحسنها الناس: ” حسن النية لا يبيح الابتداع في الدين ؛ فإن الدين مبني على أصلين : الإخلاص ، والمتابعة ، قال تعالى : {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة : 112] ، فإسلام الوجه هو الإخلاص لله، والإحسان هو المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وإصابة السنة.
وشدد على مسألة التهاون مع أهل البدع، فقال: “لا يجوز تعظيم المبتدعة، والثناء عليهم، ولو كان عندهم شيء من الحق، لأن مدحهم والثناء عليهم يروج بدعتهم، ويجعل المبتدعة في صفوف المقتدى بهم من رجالات هذه الأمة، والسلف حذرونا من الثقة بالمبتدعة، ومن الثناء عليهم، ومن مجالستهم”.
وقد تعرض الشيخ صالح الفوزان لهجوم الليبراليين والعلمانيين وأدعياء التنوير في عدة مسائل، كان أبرزها فتواه بكفر تارك الصلاة وقاموا بتأويل حديثه عن وجوب قتله وقالوا بأنه يبيح لزميل العمل أن يقتل زميله الذي لا يصلي، وهو محض افتراء، فأولا: الشيخ الفوزان لم يأت بالقول بكفر تارك الصلاة من تلقاء نفسه، بل هو قول معتبر في آراء السلف وله أدلته، وثانيًا: الشيخ يطلق حكم الكفر على تارك الصلاة في العموم لكنه لم يكفر شخصًا بعينه لأن هذا يحتاج إلى انتفاء عوارض الأهلية كما قرر أهل العلم، وثالثا: الشيخ عندما قال بأن تارك الصلاة يستتاب فإن لم يتب يقتل، فهو لا يعطي الحق لآحاد الرعية أن يطبقوا الحكم، بل هو موكول إلى الحاكم وهو ما يؤكد عليه في سائر أحاديثه.
كما أنهم هاجموا الشيخ الفوزان بسبب فتواه عن التداوي بأبوال الإبل بدعوى أنه مناقض للفطرة السليمة، مع أنه لم يأت بهذا القول من تلقاء نفسه، وإنما يستند كغيره من العلماء إلى حديث في صحيحي البخاري ومسلم عن وصفة التداوي بألبان وأبوال الإبل.
وهذا ليس أمرًا شرعيًا واجبًا، بل هو من قبيل الوصفات الطبية، وقد أكد على فوائد التداوي به ابن سينا الذي يعد مرجعًا للطب على مدى قرون عديدة، كما ذكره ابن القيم المعروف ببراعته في الوصفات الطبية، وكان الأولى بهم أن ينتقدوا من يعالجون أنفسهم بشرب أبوال الآدمي في أوروبا، وتناول المشروبات الكحولية المصنعة من بول القطط، علمًا بأن بعض الأبحاث الغربية أثبت فوائد التداوي بعلاج أبوال الإبل في بعض الأمراض منها السرطان.
نسأل الله أن يوفق الشيخ صالح الفوزان لما فيه خير البلاد والعباد وأن ينفع به أمة الإسلام، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إحسان الفقيه زاوية إخبارية متجددة