عندما يصبح الجدل طريقًا للشهرة

عندما صنّف المفكر خالد محمد خالد كتابه المثير للجدل «من هنا نبدأ»، لم يفلح في بيع نسخة واحدة منه، وبقي الكتاب مغمورًا لا تمتد إليه يد، فاهتدى إلى حيلة تمكنه من تحريك سوق الكتاب، فعمد إلى صديقه محمد حسن البري، وطلب منه أن يكتب مقالًا يتضمن نقدًا لاذعًا للكتاب.

يقول الأستاذ خالد محمد خالد في مذكراته: «ثم قلت له (أي للأستاذ البري): اذهب إلى مسكنك واكتب مقالا في نقد الكتاب، ولا تترك كلمة وقحة إلا أقحمتها عليه»، وطلب منه أن يكون عنوان المقال: «كتاب أثيم لعالم ضال».

وبالطبع تساءل صديقه عن مغزى هذا الطلب الغريب، لكنه قد اتضح لديه الأمر بعد نشر المقال، حيث تداعت الأقلام لنقد الكتاب المثير للجدل في الصحف، وطالب الأزهر مصادرة الكتاب والتحقيق مع المؤلف، فكانت النتيجة أن كل نسخ طبعة الكتاب قد نفدت، ونال الكتاب شهرة واسعة.

المغزى من عرض هذه القصة التي يحسب لصاحبها شفافيته وشجاعته في هذا الاعتراف، أن بعض الناس يصنعون الفوضى ويثيرون الجدل عمدًا من أجل جذب الأنظار أو تثبيت أوضاعهم أو الوصول إلى أهدافهم.

لقد أصبحت الشهرة عملة متداولة تفوق في قيمتها الحقيقة والمضمون في كثير من الأحيان، حتى لو كانت على حساب المبادئ والمصداقية، ومع الأسف الشديد يساعد على سلوك ذلك الاتجاه أن الأضواء لا تُسلط غالبا على أصحاب المواهب والإنجازات، بل على من يجيدون فن الصخب وإثارة الجدل.

يذكر هذا بالقصة الشهيرة التي وردت في كتب التراث، أن الحُجاج بينما يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر، فما كان من الحُجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، فخلّصه الحراس منهم، وجاءوا به إلى الوالي فقال: لم فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس فيقولون: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم.

ومن حيث المبدأ لا يذم الحوار وتبادل الآراء التي تحرك الفكر، لكن ما نشهده في هذا العصر ليس جدلًا فكريًا بالمعنى التقليدي، بل هو استعراضات رخيصة للغرابة والخروج عن المألوف وكسر الخطوط الحمراء، كالسخرية من القيم الدينية والأعراف الاجتماعية، فقط ليتصدر العناوين، وتتحول مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية إلى ميادين حرب بين مؤيد ومعارض حول الموضوع الذي أثار الجدل، ليزداد صاحبه شهرة وتبلغ سيرته الآفاق التي لم يصل إليها، وهو المستفيد الأكبر من هذا الصخب، والضحية هي تلك الجماهير العريضة التي لا يميز أكثرها بين الغث والسمين.

لكن هذه القصة توقفنا على مسألة أخرى متعلقة بالأصل، وهو أن مثيري الجدل لا يتحملون وحدهم مسؤولية هذه الفوضى، بل يتحملها كذلك الإعلام الذي يشهره عن طريق التناول والطرح بحجة الحرية في عرض وتعدد الآراء، ويتحملها كذلك الجمهور الذي يردد تلك الموضوعات المثيرة للجدل إلى أن تحتل شهرة واسعة.

وكثيرًا ما نجد على مواقع التواصل أصحاب أقلام مجاهيل لا يسمع بهم أحد، يعمدون إلى الخوض في مسائل شائكة يخوضون فيها بأفهام ضالة مغلفة بمعسول الكلِم، ويتخذون إزاءها مواقف غير مسبوقة، تستفز الآخرين فيندفعون إلى الرد عليه، ونشر ما يكتب لهذا الغرض، ويتسببون بذلك في ذيوع اسمه وأفكاره.

لذلك قيل «أميتوا الباطل بالسكوت عليه»، فالتجاهل والإعراض عن راغبي الشهرة عن طريق إثارة الجدل وسيلة ناجحة لقطع الطريق أمام تلك الشهرة الزائفة التي يقتات أصحابها على إثارة البلبلة والشكوك لدى الجماهير وضرب ثوابتهم الدينية والوطنية والمجتمعية.

السعي للشهرة لا يعيب صاحبه طالما أنه يبغي وصول إنتاجه الهادف إلى الجماهير واتخذ لذلك طريقًا نظيفًا، لكن المذموم منها ما يقوم على إشعال النار في البيوت الآمنة لجذب أنظار المارة، لكن جرت العادة أنها في النهاية تحرق صاحبها.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

لماذا أريد دراسة القانون من الصفر.. رغم أنني أطرق أبواب السابعة والأربعين؟

-لأنّ القانون في جوهره ليس مهنةً فحسب، بل منهج في التفكير، ونافذة تطلّ على فلسفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *