تحتل الأخلاق مكانة سامية في التشريع الإسلامي، ولذلك ارتبطت ارتباطا وثيقا بالعبادات، إذ أن الجانب التعبدي يسهم بقوة في ترسيخ وتحسين الأخلاق التي دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة.
ومن تلك العبادات التي تُكسِب المسلم جميل الأخلاق، عبادة الحج، والتي هي الركن الخامس من أركان الإسلام، والفريضة التي ارتبطت فرضيتها بالقدرة المادية والجسدية.
في الحج تهذيب للنفس وغرس لفضيلة التواضع والتخلص من مظاهر الكبر والتعاظم والتفاخر، ففي هذا الجمع الغفير، يتساوى الغني والفقير، والقوي والضعيف، فكلهم يقفون في صعيد واحد، ويؤدون مناسك واحدة، ويلبسون ملابس واحدة لا مجال فيها للفخر والخيلاء وإظهار الترف، يتدافعون ويتزاحمون كأنهم لا أنساب ولا تفاضل ولا رتب بينهم.
إنها المواطن التي يشعر فيها المرء أنه هو ذلك الإنسان الذي أتى إلى الدنيا خاليا ويخرج منها خاليا إلا من عمله، إذ هو يتوافق مع من حوله في ارتداء ملابس غير مفصلة، فأنى له أن يظهر غناه وقوته وسلطته وجاهه والكل في تلك المواطن سواء، فيتحقق المقصد الأسمى من قوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
الحج يُكسب المرء فضيلة الصبر، فأعمال الحج المتعددة التي تأتي على ترتيب معين، بها من المشقة ما الله به عليم، من طواف وسعي ورمي للجمرات، والتنقل ما بين الحرم ومَنى ومزدلفة وعرفة، كل ذلك فترة الإحرام التي يمنع فيها الحاج من أمور معينة كانت شيئا معتادا في حياته، كالتطيب وتقليم الأظافر وقص الشعر والوطء.
فمن ثم يتعود المسلم في فترة الحج فضيلة الصبر، خاصة وأنه يقوم بأعمال قد لا تظهر له الحكمة من تشريعها، لكنه يوقن بأنها لا تنفك عن أوامر الله تعالى ونواهيه، فيفعل وينتهي استجابة لأمر الله العلي الحكيم.
ومن الأخلاق التي يكتسبها المسلم أثناء أعمال الحج، التسامح والتغافل والعفو والحلم، ففي الحج يجتمع الناس من كل لون وجنس، مع اختلاف طبائعهم وأفهامهم وعاداتهم، ومن ثم يتعرض الحاج إلى ما يستفزه ويستنفر غضبه، لكنه يعلم في الوقت ذاته أنه مأمور بترك الشحناء والخصام واللغو والجدال في الحج، ليعود من الحج المبرور كما ولدته أمه، فهو يضع نصب عينيه قول الله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
وكذلك يضع نصب عينيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، فمن ثم يجد الدافع قويا لأن يكبح جماح نفسه، ويتغافل عن مضايقات الآخرين، ويحلم عليهم ويعفو عنهم ابتغاء مرضاة الله، بل ويترك الجدال معهم حتى في الحوارات والنقاشات وحتى في علاقات البيع والشراء.
وفي الحج يتأدب المسلم حتى مع الكائنات غير العاقلة، فهو يقبل الحجر أو يشير إليه، ويمتنع عن قطع الأشجار، ولا يروع الطير، ولا يصطاد في الحرم.
إنها أمور تجعل الإنسان يدرك أنه جزء من المنظومة الكونية، وأنه مطالب بالتناغم معها لا بالقطيعة عنها أو تغافلها، ففي الكون مخلوقات غيره تسبح الله وتعبده، ولها مكانتها وشأنها وخصائصها التي يجب احترامها.
إن من شأن التفكر في ذلك والتفاعل معه، أن يعتاد المسلم مراعاة البيئة من حوله، فيرحم الحيوان وكل ذوات الأرواح ويحسن إليها، وينمو لديه احترام المخلوقات التي لم تخلق عبثا، وينظر إليها بنظرة جديدة من خلال ما اعتاده في الحج.
وفي الحج يكتسب الإنسان صفة الاعتدال والتوسط في النفقة، ويستجيب للوصية القرآنية {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29].
ذلك لأن الحاج غالبا يعيش أجواء روحانية تخلصه من حب المبالغة في الترف، فينشغل بالذكر والعبادة وأداء ما أوجبه الله من أعمال الحج، كما أن وجود أعداد غفيرة من البسطاء والفقراء تجعل الحاج غالبا مترفعا عن المبالغة في النفقة صيانة لمشاعر الآخرين.