يُنظر إلى قمة “العلا” على أنها محطة تاريخية مهمة على طريق إنهاء الأزمة الخليجية، بعد أكثر من ثلاثة أعوام من قطع كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر جميع أشكال العلاقات مع قطر، في 5 يونيو/ حزيران 2017.
ففي 5 يناير/ كانون ثاني الماضي، عُقدت القمة الخليجية الـ41 في مدينة “العلا” شمال غربي السعودية، وشهدت مصالحة بين دول الأزمة الخليجية.
ومن أهم بنود اتفاق “العلا”، التأكيد على عدم المساس بسيادة أي دولة أو استهداف أمنها، والبدء الفوري في إعادة ترميم البيت الخليجي على أسس وقواعد واضحة وصريحة.
ولاحظ مراقبون أن طبيعة العلاقات القطرية مع الدول الأربع شهدت تحسنا واضحا في تخفيف حدة الخطاب الإعلامي المتبادل، الذي اتسم بطابع هجومي وأحيانا عدائي، حتى قبيل الإعلان عن استئناف العلاقات الثنائية بين قطر وكل دولة من الدول الأربع على حدة.
ولا تبدو جميع الدول الأربع متفقة على مشتركات في صياغة علاقاتها الجديدة مع قطر، فهناك الكثير من الملفات الثنائية التي لا تتشارك فيها تلك الدول في خلافاتها مع الدوحة.
وجاءت المصالحة في أعقاب التأكد من خسارة دونالد ترامب انتخابات الرئاسة الأمريكية، في نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي، وهو الحليف الأوثق لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والذي يرتبط بعلاقات عميقة مع كل من ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، والرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي.
ويسود اعتقاد في أوساط سياسية عربية وغربية بأن خسارة ترامب أثارت مخاوف حكومات السعودية والإمارات ومصر تجاه نوايا الإدارة الأمريكية الجديدة، برئاسة جو بايدن، والتي تولت مهامها في 20 يناير الماضي.
ولم تخف إدارة بايدن تبنيها سياسات مغايرة لسياسات إدارة ترامب فيما يتعلق بملفات حقوق الإنسان، وإعادة تقييم الدعم العسكري الأمريكي للسعودية في حربها باليمن، وصفقة طائرات F-35 للإمارات.
الأمر نفسه ينطبق على الهبات العسكرية الأمريكية لمصر، والتي سبق وأن أوقفها لعدة سنوات الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما (2008: 2016)، ونائبه حينها بايدن؛ لأسباب تتعلق بالانقلاب الذي نفذه الرئيس السيسي (حين كان وزيرا للدفاع) على الرئيس المنتخب، محمد مرسي، في 3 يوليو/ تموز 2013.
ويرى محللون أن التعجيل بإنجاز المصالحة الخليجية، بعد فشل جهود الوساطة الرسمية الكويتية والجهود الأخرى بما فيها جهود إدارة ترامب طيلة أكثر من ثلاثة أعوام، تعد رسالة إبداء حسن نية للإدارة الجديدة وتحقيقا للمصالح الأمريكية.
فالإدارة الأمريكية السابقة رأت أن وحدة دول مجلس التعاون “ضرورية لعزل إيران”، وأن الأزمة الخليجية ألحقت ضررا بالغا بالمصالح الأمريكية في المنطقة، وهو ما قد يتفق مع رؤية إدارة بايدن.
وخلال القمة الخليجية، حرص ولي العهد السعودي على التأكيد على ضرورة مواجهة التحدي النووي الإيراني، في حين أكد وزير الخارجية، فيصل بن فرحان، على وجوب وجود موقف خليجي موحد من إيران.
لكن هذا الموقف من إيران لا تتفق معه قطر، التي قالت على لسان وزير خارجيتها، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، إن العلاقات الثنائية يحكمها بشكل أساسي القرار السيادي والمصالح الوطنية، وإن بلاده لن تغير علاقاتها مع إيران أو تركيا.
ولا تزال هناك الكثير من الملفات الخلافية بين قطر والدول الأربع، خاصة الإمارات والبحرين.
وتتوقع قطر أن هناك محاولات لتعكير صفو الأجواء الإيجابية للمصالحة.
وردا على وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية، أنور قرقاش، أعرب مدير المكتب الإعلامي بوزارة الخارجية القطرية، أحمد بن سعيد الرميحي، عن أسفه لتصريحات لقرقاش بعد ثلاثة أيام من إعلان قمة “العلا”، قال فيها إن “استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة سيستغرق وقتا، وتعتمد على تعاملات قطر المستقبلية مع إيران وتركيا”، وما وصفها بـ”الجماعات الإسلامية المتطرفة”، “والمشاكل في إعادة بناء الثقة”.
ورحبت الإمارات بإنجاز المصالحة الخليجية، التي تفاوضت بشأنها الرياض نيابة عن العواصم الأخرى، قبيل انعقاد القمة.
وأعربت قطر، على لسان وزير خارجيتها، أن حل الخلافات مع الإمارات لا يزال “بحاجة إلى بعض الجهود الإضافية”، في إشارة إلى واقع علاقات البلدين والخلاف حول ملفات حركات الإسلام السياسي، والعلاقات مع كل من إيران وتركيا، والحرب في اليمن وليبيا وغيرها.
وحسب تصريحات مسؤولين بحرينيين، لا يزال أكثر من 50 صيادا محتجزا في قطر حتى بعد نجاح سلطنة عمان في الإفراج عن عدد منهم.
وتعيد البحرين، التي رحبت باتفاق “العلا”، تأكيد حرصها على تنفيذ الاتفاق بما لا يتعارض مع سيادتها وأمنها، إلى جانب اتهامات لقطر بعدم التعاطي الإيجابي مع أي مبادرات لحل المشكلات القائمة بين البلدين، وأنها لم تستجب لدعوة البحرين، منذ 11 يناير الماضي، بإرسال وفد رسمي إلى المنامة لبدء محادثات ثنائية حول الخلافات الثنائية وتفعيل بنود اتفاق “العلا”.
لذلك ستكون هناك حاجة لحوارات ثنائية أكثر عمقا لتسوية الملفات الخلافية بين قطر والإمارات، وهي الملفات الأكثر تعقيدا مقارنة بالدول الأخرى، وهي السعودية والبحرين ومصر.
وفور الإعلان عن بيان قمة “العلا”، افتتحت شركة “الديار”، المملوكة لدولة قطر، بحضور ستيفن منوشين وزير الخزانة الأمريكي آنذاك، فندقا تملكه بالقاهرة، في إشارة واضحة إلى تحسن علاقات البلدين.
وعلى هامش افتتاح المشروع، قال وزير المالية القطري، علي العمادي، إن إجمالي استثمارات قطر في مصر يزيد عن 5 مليارات دولار، وإن بلاده تجدد التزامها بدعم القطاع السياحي في مصر لدوره الحيوي في التنمية الاقتصادية وخلق فرص العمل.
ولم تمض أكثر من ثلاثة عشر يوما حتى أعاد البلدان استئناف الرحلات الجوية مباشرة بعد سنوات من القطيعة بينهما.
ويشكل الخطاب الإعلامي لشبكة “الجزيرة” والدعم القطري لحركات الإسلام السياسي محور الخلافات بين قطر ومصر، التي تشكو من خطاب “الجزيرة” الموجه ضد القاهرة واستضافة الدوحة لقيادات بجماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر، والتي ترى القاهرة أنها لا تزال تشكل التهديد الأهم والأكثر خطرا على النظام المصري.
وبعيدا عن الجانب السياسي، فإن لمصر مصلحة اقتصادية هائلة في عودة العلاقات مع قطر.
ويعاني الاقتصاد المصري من تداعيات جائحة كورونا، وتراجع إيرادات القطاع السياحي، والطفرة الكبيرة في النمو السكاني، وقلة إقبال المستثمرين الأجانب على الاستثمار في مصر لدعم اقتصادها.
وتشير بيانات رسمية إلى وجود ما يزيد عن 300 ألف مصري يعملون في قطر، وتمثل تحويلاتهم المالية مصدرا مهما من مصادر حصول مصر على العملات الصعبة التي هي بحاجة إليها.
لكن ذلك لا يعني أن العلاقات القطرية المصرية ستعود إلى مرحلة ما قبل انقلاب 2013.
وهناك ملفات أخرى لا تزال تشكل مصدرا لتوتر محتمل بين البلدين وعدم المضي قدما في تطبيع كامل للعلاقات بينهما.
يقف البلدان على طرفي نقيض من الحرب الأهلية في ليبيا، حيث تدعم قطر الجهود التركية المساندة لحكومة الوفاق الوطني، بقيادة فائز السراج، والمعترف بها من الأمم المتحدة، في مواجهة اللواء الانقلابي، خليفة حفتر، المدعوم من مصر والإمارات.
إلى جانب ذلك، لا تزال قطر تتبنى مواقف خلافا للمواقف المصرية، سواء ما يتعلق بالعلاقات القطرية الإيرانية والتركية، أو بالموقف من حركة “حماس” في غزة، المدعومة قطريا، والتي ينظر إليها النظام المصري على أنها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين، ويخوض ضدها حربا على مختلف الصعد، بالتنسيق مع الإمارات.
ومنذ انقلاب 2013، تبنت مصر سياسة متشددة تجاه غزة، عبر إغلاق المعابر وتدمير أنفاق التهريب، وتوجيه اتهامات لـ”حماس” بدعم التنظيمات المتطرفة في سيناء، وفي الوقت ذاته حافظت القاهرة على دور الوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتشجيع المصالحة بين السلطة الفلسطينية و”حماس”.
من المرجح أن تستمر الخلافات المصرية القطرية حتى بعد إعلان اتفاق “العلا” واستئناف الرحلات الجوية وغيرها من الخطوات “التطبيعية”، حيث تعود جذور الخلافات بينهما إلى فترة ما قبل الأزمة الأخيرة بنحو أربع سنوات، في أعقاب الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي والدور القطري في دعم جماعة الإخوان المسلمين.
وتفتقر المصالحة الخليجية إلى الكثير من الإيجابية في فتح الملفات الخلافية التي أدت إلى قطع العلاقات بين الدول المعنية بالأزمة الخليجية، على الرغم من إعادة فتح الأجواء والحدود البرية واستئناف العلاقات الدبلوماسية واقتراب تبادل السفراء.
كما أن المصالحة لم تتخط حاجز بناء الثقة واليقين لدى الدول الأربع بالتزام قطر باتفاق المصالحة، خاصة مصر التي أيدت الاتفاق رسميا كوسيلة لـ”إعادة التأكيد على تضامنها مع الرباعي العربي والثني عن التدخل في شؤونها المحلية”، في رسالة واضحة بأن القاهرة لا تزال تشكك بمصداقية التزام الدوحة بالاتفاق.