بين العلم والضمير

عندما تحول العلم من وسيلة لخدمة البشرية إلى ماردٍ مارقٍ متفلّت يسير بمنطقه الخاص دون الالتفات إلى الإنسان كروح وجسد وحقيقة ومعنى، حينها أدركت البشرية حجم المأساة التي تعيشها في عصر الحداثة.

الحضارة الغربية المذهلة التي لا نستطيع إنكار جوانبها المضيئة، بلغت من الذكاء ما جعلها تفتح أبواب الكون، لكنها على الرغم من ذلك أغلقت قلب الإنسان، وكأن الجنس البشري تقلص وجوده حين تمدد علمه، تآكل فيه المعنى في الوقت الذي اتجه لفك أسرار المادة. العلم الغربي صار مأزومًا عندما نزع مضمونه الحداثي عن المعرفة ثوبها الأخلاقي، وجعل الإنسان تابعًا لصنم التجريب، وعندما فصل الحقيقة عن القيمة، فتحول التقدم إلى آلة عمياء تدهس الطبيعة والروح.

عندما ألقيت القنابل النووية على هيروشيما ونجازاكي، لم تكن تلك اللحظة لحظة انتصار علمي للحضارة الغربية، بل لحظة سقوط أخلاقي مروّع، لحظة غير فيها الإنسان المعادلة، فبدلا من أن تخدم التجربة الإنسان، صار الإنسان جنسًا مُستعبدًا يخدم العلم وتجاربه خدمة العبد لسيده.

ثم جاءت الثورة الصناعية لتكشف وجهًا آخر للتوحش المقنّع بالعقل، فبينما تضاعفت المصانع، تناقصت المساحات الخضراء، وارتفعت مداخن الإنتاج كأنها شواهد على قبر الطبيعة. احتبست الأرض أنفاسها، وارتفعت حرارتها، وبدأت الكوارث البيئية تتوالى كنبوءات غاضبة من كوكب أنهكه الجشع. ومع ذلك، لا يزال الغرب يتعامل مع الأزمة كأمرٍ إحصائي، لا كجرحٍ أخلاقي.

وفي معامل الهندسة الوراثية، يواصل الإنسان محاولاته في مضاهاة الخالق، يعبث بالخلايا والجينات، يصنع طعامه من الخطر، ويستبدل بالنظام الإلهي معادلات كيميائية. هذه النباتات المعدّلة وراثيًا، التي تُزرع في حقول الاقتصاد، تُثمر في أجساد البشر أمراضًا كامنة، وتُعلن عن زمنٍ جديد: زمن الإنسان المصنع، لم يعد الإنسان يكتفي بتغيير العالم من حوله، بل مدّ يده ليسعى في إعادة تشكيل نفسه، دون أن يعرف إلى أي مصير يركض.

يرى إدغار موران، عالم الاجتماع الفرنسي، أن الحداثة الغربية دخلت طور الهمجية العقلانية، حيث صارت الوحشية تتخفّى في ثياب التقدّم. إنّها همجية لا تُسفك فيها الدماء فحسب، بل تُسلب فيها المعاني. فالإنسان الذي كان يقيس الأشياء بالضمير، صار يقيسها بالمنفعة؛ والذي كان يسعى للحق، صار يسعى للربح؛ والذي كان يسأل «لماذا؟» صار يسأل «كيف؟».

والمفارقة أن هذا الانفصال بين العلم والقيم لم يحرر الإنسان كما زُعم، بل كبّله بصورة جديدة من العبودية؛ عبودية التقنية والاستهلاك. فالعقل الذي أراد أن يكون سيد العالم، صار خادمًا للآلة التي صنعها. الإنسان الحديث يعيش بين أدواتٍ تراقبه، وأجهزةٍ تُبرمِج رغباته، حتى غدا الكائن الحر الذي حلمت به الحداثة رقمًا في معادلة السوق. ولا يفهم من نقد الحضارة الغربية أننا ندعو لرفضها جملة، أو الانغلاق دونها، فالإسلام لم يأت لهدم الحضارات، وفي المسار التاريخي للحضارة الإسلامية العربية كانت الأمة تفيد وتستفيد من غيرها من الحضارات الأخرى.

لكن الغرض من هذه الكلمات إطلاق صيحة تحذير في تعاطينا مع الحضارة الغربية، فمن الخطأ الجسيم أن نستلهم من الغرب تجربته بحذافيرها بكل مضامينها دون أن نزنها بميزان القيم.

إن الغاية من هذا النقد هي أن نحذر من الانزلاق وراء التجربة الغربية بكل تفاصيلها، فليست النهضة هي أن نكرر طريق الآخرين، بل أن نبني طريقنا بما يحفظ الإنسان كغاية لكل علم، فالعلم الذي ينفصل عن الضمير يُفقد معناه، ويغدو وبالًا على صاحبه.

لقد تسربت إلى عالمنا العربي فكرة خطيرة تقول إن العلم لا يحتاج إلى قيم، ولا يحتاج إلى ضمير، وأن الدين عقبة أمام التقدم. وهي فكرة أثبت التاريخ بطلانها، إذ لم ينتج عنها سوى أزمات بيئية، وأسلحة إبادة، وتوحش حضاري مغلف بالعقل.

إن العلم بلا ضمير يجرّ العالم إلى الهاوية، أما العلم المقرون بالقيم فهو الذي يسمو بالإنسان ويرفع شأنه. وبين هذين الطريقين تقف الإنسانية اليوم على مفترق خطير.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

المفتي الرابع للسعودية..من هو الشيخ صالح الفوزان؟

يعد منصب المفتي العام للملكة العربية السعودية أرفع منصب ديني وقضائي في المملكة، ويتم تعيينه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *