هذه صفية

كثيرًا ما تختلط المفاهيم لدى المرء، فيتمثّل المغلوط منها وهو يحسب أنه يحسن صنعا، كأن يرى الشجاعة تعريض نفسه للمخاطر، ويرى الإسراف في الترف سخاءً، ويرى التشدد ورعًا.

ومن مسالك الفهم التي يحدث فيها اللبس، أن لا يعبأ المرء بأن يكون في مرمى التهم التي هو بريء منها، ولا يدفع عن نفسه سوء ظن الآخرين، معللا ذلك بالثقة في النفس، فطالما أنه يثق في نفسه ونزاهتها فلا يضره نظرة الآخرين إليه، مهما كانت مدفوعة بسوء الفهم والالتباس.

وهذا المسلك مردّه إما إلى ضعف الإدراك وقلة الفهم، أو يكون ناتجا عن مسحة من الكبر يتلبس بها المرء، تجعله يترفع عن ابتعاده عن مواطن التهمة أو تبرئة ساحته أمام الناس، فيؤثِر أن يُساء به الظن على أن يوضح للآخرين ويدفع عن نفسه التهمة.

ولا ريب أنه مسلك مجانب للصواب، فالآخرون لا يطلعون على النوايا والمقاصد، ويحكمون على الظاهر بما تراه الأعين وتسمعه الآذان، فإذا وضع المرء نفسه موضع الريبة ولم يسع إلى دفعها أو تبرئة ساحته، فإنه قد يسقط من أعين الناس بغير وجه حق، وربما تناقلوا شأنه فيما بينهم، ويتحاملون عليه بقلوبهم إن لم يكن بأفعالهم، فيفتح بذلك بابا للشرور وهو يظن أنه يحسن صنعا، ولذلك يقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن».

فعلى المرء ألا يعرض نفسه ابتداء لموضع التهمة، فإن تعرض للاتهام بغير وجه حق فعليه أن يبين للناس حتى لا يقعوا في عرضه ونزاهته.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فبينما كان معتكفا في مسجده، أتته زوجته أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها تزوره ليلا، فقام معها ليوصلها إلى منزلها، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا في مشيتهما، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما) أي: امشيا على هيئتكما ولا تسرعا، (إنها صفية بنت حيي).

هنا قال الرجلان: «سبحان الله يا رسول الله»، أي كيف لنا أن نظن بك غير الخير وأنت رسول الله وصفوة عباده، فبيّن لهم العلة من البيان: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا).

لم يركن النبي صلى الله عليه وسلم إلى علو قدره وتزكية ربه إياه بأنه على خلق عظيم، بل أوضح وبيّن، مُعلمًا أمته كيف يتصرف العبد في مثل هذا الموطن.

ينبغي على الإنسان أن يتحرز مما يسبب التهمة، وأن يدفع ما يلحقه من اتهامات، لئلا يُظن به ظن السوء وهو منه براء.

ويتأكد هذا المسلك في حق من يقتدي به الناس ويتبعونه أو يقعون في نطاق تأثيره، من علماء وأعيان ومسؤولين، وإلا غابت القدوة العملية بين الناس، ولذلك قال العالم الجليل ابن دقيق العيد في هذا الشأن: «وهذا متأكد في حق العلماء، ومن يُقتدى بهم»، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

السعوديون والمصريون… شعبٌ واحد لا تفرّقه الأزمات ولا تفتّ في عضده الفتن

شهدت الأسابيع الأخيرة تصاعدًا مؤسفًا للهجمات الإعلامية المتبادلة بين بعض أبناء الشعبين السعودي والمصري على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *