“وَلَيتَك تَسلم” يا #أردن ..

في زمنٍ تكاد فيه الجغرافيا تختنق تحت وطأة الحروب، وتتحوّل فيه الحدود من معابر حياة إلى جدران صدٍّ باردة، يظلّ للأردن خطابٌ آخر…

خطاب لا يُروى على منصات دِعائية ذات إمكانات عالية، بل يُكتب على وجوه اللاجئين وهم يقتسمون الخبز والمأوى مع شعبٍ اختار أن يظلّ إنسانا قبل أن يكون دولة.
ففي زاوية ملتهبة من هذا الشرق، حيث تنهار المدن تحت رماد البنادق، ويفرّ البشر من أوطانهم كمن يفرّ من الحريق إلى المجهول، ظلّ الأردن، رغم قلة موارده، ورغم الطعن اليوميّ في كُل موقف منه أو تصرّف، ظلّ الباب المفتوح، واليد الممدودة، والضمير الحيّ الذي لم يُخدره العجز.

هذا النص ليس دفاعًا رسميا، ولا بروشورا سياحيا بل محاولة لردّ شيء من الفضل، وتفنيد كثير من الظلم، ورفع الغشاوة عن عدسةٍ صارت لا ترى في الدول إلا مصالحها، ولا تُحسن قراءة مواقف الكرام إلا من خلال ميزان التمويل والصفقات والدعوات السخيّة للمؤتمرات والمهرجانات.
اقرأ حتى النهاية… ففي التفاصيل التي تُغفلها العناوين، تسكن الحقيقة، ويظهر المعدن الذي لا يستطيع الإعلام أن يُزيّفه ولا تقوى أيّة ضوضاء على تغطيته.

الأردن، كأيّ دولة في هذا العالم، ليس بمنأى عن الانتقاد والإشارة إلى خلل، غير أن ما يتعرض له أحيانا من حملات إعلامية مغرضة تُحاول تشويه صورته، يستدعي وقفة جادة وواعية، لا بالدفاع الانفعالي، بل بإيضاح الحقائق التي يحاول البعض طمسها.
ثمة حقيقة جلية يتغافل عنها المرتزقة والمأجورون: أن الأردن، البلد الآمن في محيط ملتهب، ظل عبر العقود ملاذا للأشقاء، وحاضنة إنسانية لكل من أُجبر على النزوح من أرضه….
فقد استضافت المملكة الأردنية الهاشمية الفلسطينيين والعراقيين والسوريين، واحتضنتهم دون تمييز، امتثالا لما عُرف عن الشعب الأردني والأسرة الهاشمية من تمسّكٍ راسخ بقيم العروبة الأصيلة في الكرم، والشهامة، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف.

بلغة الأرقام، لا بلغة الشعارات، تبنّى الأردن سياسة جعلت منه ملاذا إنسانيا لمئات الآلاف من المُهجّرين قسرا، منذ نكبة فلسطين عام 1948، مرورا بنكسة 1967، ثم موجات اللجوء العراقي إثر غزو 2003، ووصولا إلى تدفّق اللاجئين السوريين منذ 2011 وحتى اليوم، ناهيك عن عشرات الجنسيات العربية الأخرى كاليمنيين والسودانيين والليبيين وغيرهم.
وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، يستضيف الأردن ما يقارب 3 ملايين لاجئ، من بينهم نحو 1.3 مليون سوري، وأكثر من 2.2 مليون فلسطيني مسجّلين لدى وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، إضافة إلى آلاف من العراقيين واليمنيين وغيرهم…
ووفقا لهذه الإحصاءات، فإن واحدًا من كل ثلاثة أشخاص في الأردن هو لاجئ، وهي أعلى نسبة لجوء في العالم مقارنة بعدد السكان.

ورغم أن بعض التقارير الأممية تُقدّر عدد اللاجئين السوريين في الأردن بنحو 660 ألفا، فإن الواقع السكاني يشير إلى أن الرقم الحقيقي يتجاوز المليون، ومع ذلك، لم تُسجَّل في الأردن، طوال أربعة عشر عاما، أيّ حملات كراهية ممنهجة ضدهم، كما حدث في دول أخرى، منها دول عربية للأسف.
ورغم الأوضاع الاقتصادية الضاغطة التي يعاني منها الأردن، فقد وفّرت الدولة للاجئين خدمات التعليم والرعاية الصحية المجانية، وسمحت لهم بالعمل في قطاعات عدة، وهو ما يُعدُّ موقفًا إنسانيًا نادرًا في هذا الإقليم المنهك.
وقد يقول قائل: إن الأردن يتلقى دعما ماليًا مقابل استضافته للاجئين، لكن لغة الأرقام، التي لا تعرف المُجاملة، تشير إلى غير ذلك… فمؤتمر “بروكسل للمانحين” عام 2023 تعهّد بتقديم 1.45 مليار دولار للأردن، غير أن ما وصله فعليًا لا يتجاوز 30% فقط من هذا المبلغ، وفق تقارير نفس الجهات الدولية المانحة.

ومن دون منّة أو أذى، وحاشا لله أن نفعل.. وبعيدا عن التصريحات الرسمية المُتحفّظة، تشير تقديرات منظمات دولية مختصة إلى أن الأردن تحمّل خسائر اقتصادية تتجاوز 25 مليار دولار بسبب الأزمة السورية منذ عام 2011، في وقت بلغت فيه نسبة البطالة بين الشباب الأردنيين أكثر من 23%، ومع ذلك، تمكّن مئات الآلاف من اللاجئين السوريين من العمل في قطاعات الزراعة والإنشاء والخدمات…
لم يكن الأردن ليفعل ما فعله من باب التفاخر، بل لأنه يُمثّل امتدادًا لإرث عريق من القيم الإنسانية والدينية والعربية، التي ترى في إغاثة الملهوف واجبًا لا خيارًا.
والشعب الأردني، على قِلّة موارده، شارك اللاجئ في لقمة عيشه، وشربة مائه، ومدرسته، ومُستشفاه، وسوق عمله. قد لا يقولها الأردنيون بألسنتهم، مُروءة وعزّة، ولكن أفعالهم قالتها منذ سنين: نحن لا نُزايد، ولا نَمنّ، ولا نُوظّف معاناة الشعوب، ولا نُجيد الاستعراض، بل نُشاركهم الوجع كما لو كان وجعنا… نُؤوي من شُرّد، ونحفظ من ضاع، ونمدّ أيدينا لا لنأخذ بل لنُعطي، فإن سلمنا من أذى ألسنتهم، فهو فضل من الله ونعمة .. “وليْتك تسلم”…من أبواقهم وفجورهم يا أردنّ !

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

التحول في الموقف الدولي تجاه إسرائيل… الدوافع والآفاق

على مدى أكثر من سبعة عقود، حظيت دولة الاحتلال بدعم دولي واسع، خاصة من الغرب، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *