في الميزان.. الغاية تبرر الوسيلة!!؟

في مدينة فلورنسا الإيطالية، وتحديدا عام 1469م، ولد نيقولا مكيافيلي، السياسي والمفكر والفيلسوف الذي ترقى في الوظائف الحكومية إلى أن صار المستشار الثاني للجمهورية.

بعد أن استولت أسرة ميديتشي على الحكم، وُضع مكيافيلي في السجن لأنه كان من المعارضين، إلا أنه في محبسه قد ألف كتابا مِن أخبث الكتب التي ألفها البشر، ولا تزال الإنسانية تعاني من آثاره إلى اليوم.

ذلك الكتاب هو كتاب «الأمير»، الذي تودد به لآل ميديتشي، يدعو فيه إلى قيام دولة إيطالية موحدة في ظل حكم قوي لا يقيم للأخلاق وزنا في سبيل السيطرة على البلاد، لكنه مع ذلك فشل في استرضائهم، إلا أن مضمون الكتاب الخبيث أصبح نظرية رائجة تترجمها سلوكيات الأفراد والجماعات والأمم.

النظرية التي أرسى مكيافيلي دعائمها في الكتاب هي مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، فمن أجل الوصول إلى الغاية يتجاوز السياسي أو الحاكم كل أطر الأخلاق والقيم والفضائل، فليس هناك محظور أمام الحاكم للسيطرة على شعبه.

هذا المبدأ الشيطاني قد أوغل في سلوكيات كثير من البشر، يخدّر به الناس ضمائرهم لتجاوز الفضيلة، فطالما أن الهدف مشروع تتهاوى في سبيل تحقيقه كل القيم والأعراف، فلا بأس من أن يرتشي الموظف أو يختلس من أجل توفير حياة كريمة لأسرته، ولا مانع من شهادة الزور أمام القضاء من أجل أن ينجو من يهمه أمره من العقوبة، ولا ضير في أن يقوم بالتزوير في الأوراق الرسمية من أجل السفر أو الحصول على وظيفة..

وأخطر ما في النظرية أنها صارت معتمدة لدى كثير من الدول والحكومات والأمم، فمن أجل غاية سيطرة الأوروبيين على العالم الجديد، أُبيد الملايين من الهنود الحمر السكان الأصليين للأرض بتصدير الأوبئة وارتكاب المجازر.

ومن أجل أحلام السيطرة وسيادة الأجناس، أدخلت النازية والفاشية العالم في أتون حربين عالميتين قُتل فيهما عشرات الملايين من البشر، بخلاف الآثار المدمرة على الصحة والبيئة والاقتصاد.

ومن أجل إقامة دولة إسرائيل الكبرى، يقوم العدو الصهيوني بتدمير كامل لقطاع غزة ويصب الصواريخ صبا على المدنيين العُزّل في المساكن والخيام، ويحول القطاع إلى أرض لا تصلح لاحقا للحياة.

ومن أجل السيطرة على مقاليد الأمور في الدول، استبدت أنظمة بشعوبها وسامتها سوء العذاب، من تجويع وقهر وسجن وتشريد على غرار ما فعله طاغية الشام الذي أراح الله العباد والبلاد من شره.

هذا المبدأ الشيطاني موجود منذ القدم بين البشر، لكن الخطورة فيما كتبه مكيافيلي أنه قد أوجد له غطاء شرعيا وألبسه ثوب البراعة السياسية والضرورات الإصلاحية.

لقد وقفت تعاليم الإسلام من هذا المبدأ الشيطاني موقفا صارما، فقضت بأن الغاية لابد وأن تكون مشروعة وأن تكون الوسيلة كذلك مشروعة، والأدلة على ذلك كثيرة، فعلى سبيل المثال، وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم أمته للتداوي، لكنه قيد التداوي بما أحله الله، فقال بشأن التداوي بالخمر: (ليس بدواء، ولكنه داء)، وقال: (إن الله تعالى أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام).

وأما قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، فهي تختلف تماما عن نظرية مكيافيلي، فالإسلام أباح إتيان المحرم عند الضرورة، كأكل المضطر من الميتة إذا أشرف على الهلاك، والضرورة تقدر بقدرها، فحينئذ يأكل منها ما يبقيه على قيد الحياة لا ما يملأ بطنه ويُسكن شهوته، فهي لدفع الضرر الجسيم.

أما مبدأ مكيافيلي فهو لا يقتصر على إتيان المحظور عند الضرورة، ولكن يشمل الوصول إلى كل غاية طالما رآها محمودة فيتخذ إليها أي وسيلة ولو كانت قذرة

فلابد من مشروعية الوسيلة مع مشروعية الغاية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

آفة تبرير الأخطاء

الخطأ طبيعة بشرية، فما من إنسان إلا ويقع في ارتكاب الأخطاء، والنبي صلى الله عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *