القرآن – منذ آياته الأولى في بناء الإنسان – لم يُخاطب السلوك قبل الوعي …
ولا الفعل قبل الفكرة .. ولا النتيجة قبل النيّة…
لأن ما يسكن العقل .. هو ما يقود اليد في النهاية.
حين قال الله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ ..
لم يكن يتحدث عن انقلابٍ سياسي، ولا عن ظرف خارجي ..
بل عن نقطة البداية التي يتجاهلها كثيرون:
– ما الذي نسمح له أن يستقر في وعينا؟
الفكرة في المنظور القرآني ليست عابرة…. هي بذرة.
إن أُهملت، نبتت وحدها….
وإن تُركت بلا ميزان، تحولت إلى يقين زائف .. ثم إلى سلوك، ثم إلى مصير.
ولهذا لم يكن القرآن كتاب أوامر فقط، بل كتاب تفكيك للأفكار الخاطئة:
-﴿وَيَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾
-﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾
-﴿ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ …
لأن الظن حين يُترك بلا مساءلة… يُنتج الهزيمة قبل وقوعها.
-المشكلة ليست أن تراود الإنسان فكرة ضعف، فالقرآن نفسه يصف الإنسان بالضعف:
-﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾
لكن الفرق الجوهري
أن الضعف في الرؤية القرآنية حقيقة وجودية
لا حكم إدانة….
*الضعف دعوة للاتكاء على الله، لا ذريعة للاستسلام.
والفرق بين الاثنين = هو الوعي.
حين تتسلل إلى العقل فكرة:
-“لن أستطيع”
-“فات الأوان”
– “أنا أقل من غيري”
-” ما إلنا بخُت أو ما إلنا حظ “
فهي ليست قدرا، بل اختبار:
-هل ستجعلها مرجعا؟
-أم ستعرضها على الميزان؟
*﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾
هذه الآية لا تُنتج عقلية العجز .. بل عقلية الطمأنينة المسؤولة:
ما وقع لم يكن عبثا، لكن التعامل معه اختيار….
ولهذا لم يمدح القرآن التواكل أبدا، بل قرنه بالوهم ..
ثم يكشف حقيقتهم بالفعل لا بالقول…
التوكل في الإسلام ليس أن تترك عقلك بلا إدارة، بل أن تعمل به وأنت تعلم حدوده.
النبي ﷺ -وهو أكمل البشر إيمانا – كان يُكثر من الدعاء:
“اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل”
لأن العجز ليس فقدان القدرة فقط، بل فقدان الإرادة الفكرية.
ومن هنا نفهم أن إصلاح الفكر في الإسلام ليس ترفا نفسيا،
بل فريضة أمانة…
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾..
ليست فقط نهيا عن الكذب، بل عن تبنّي فكرة لم تُمحَّص، ولم تُوزن،
ولم تُراجع عواقبها على النفس…
العقل في الإسلام ليس حرا بلا ضابط، ولا مقيّدا بلا حركة…
هو أداة تكليف…
ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
“حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا”
والمحاسبة هنا ليست فقط على الأفعال بل على الأفكار التي سمحنا لها أن تقودنا.
أخطر ما يصيب الإنسان أن يترك يومه يبدأ بلا نيّة، وعقله بلا حراسة،
وقلبه بلا ذكر.
فيصبح فريسة سهلة لأفكار الخوف والمقارنة والسخط،
ثم يسأل: لماذا ضاقت الحياة؟
بينما القرآن يقدّم معادلة بسيطة وعميقة:
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
والذكر هنا ليس لفظا فقط، بل استحضار المعنى:
من أنا؟
ولماذا أعيش؟
ومن أين أستمد قيمتي؟
*من عرف ربه لم يحتقر نفسه، ولم يُؤلّهها.
من عرف ربّه استقام ميزانه… وحين يفهم الإنسان هذا،
يتغيّر تعريف النجاح لديه:
-لا يعود سباقا محموما
-ولا مقارنة مستنزفة
بل سعيًا هادئًا:
-﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
السعي، لا الضجيج…
الاستمرار، لا القفز….
الوعي، لا الوهم….
وهنا فقط تبدأ الأفكار المعيقة بالانحسار،
لا لأنها اختفت، بل لأنها فقدت سلطانها.
فالفكرة التي لا تُطاع .. تموت.
صدقوني يا معشر القراء الكرام :
-الحياة لا تتغير لأننا تمنّينا
-ولا لأننا اشتكينا
بل لأننا فهمنا أن العقل أمانة، وأن الله سيسألنا – قبل كل شيء –
عمّا استقر فيه، وعمّا سمحنا له أن يقودنا إليه.
﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
حرية اختيار .. لكن ضمن مسؤولية كاملة.
وهذا هو جوهر الإسلام:
-إنسان حرّ…
لكنه ليس مُهمِلِا.
إحسان الفقيه زاوية إخبارية متجددة