لم يكن دفاعي يوما عن جماعة أو نظام أو شخص موقفا انتقائيا، ولا فعلَ اصطفاف أعمى…
لقد دشّنتُ، منذ سنوات، مرصدا لتفنيد الأكاذيب في تُركيا، وكانت مُهمّتي رصد الأكاذيب التي تستهدف الدولة التركية الحديثة والقديمة وتفنيدها بشكل موضوعي والبحث عن أصل الكذبة ومصادرها المزعومة.. وكان كل ذلك من مُنطلق مبدئي بسيط: “أن الكذبة تظل كذبة، ولو قيلت ضد من أختلف معه…” ..
وتلك أيضا من خصومة الفرسان ..
فكيف إذا كان الافتراء موجّهًا إلى رمز الدولة التي أنتمي إليها، الأردن؟
ما جرى تداوله مؤخرًا عن “رغبة الملك عبد الله الثاني” أن يُعيد العراق إلى الهاشميين” ليس سوى نموذج “صادم فجّ ومُبتذل” للتلاعب السياسي بالنصوص، وقراءة انتقائية لوثائق تاريخية أُخرجت من سياقها، ثم أُلبست ثوب “السبق الصحفي”، بينما حقيقتها أقرب إلى التحريض المؤدلج منها إلى البحث الرصين…
أتحدث هنا عن الادعاء الذي روّجته صفحات ومنصات استندت إلى تقرير نشرته صحيفة Middle East Monitor، والتي زعمت أن هنالك وثائق بريطانية مرفوعة السرية تكشف عن اقتراح أردني بتنصيب الأمير الحسن ملكا على العراق بعد سقوط صدام حسين عام 2003 … !
**الحقيقة تقول:
العودة إلى الوثائق الأصلية في الأرشيف الوطني البريطاني تسقط هذه الرواية من أساسها.
فالوثائق لا تتحدث عن “خطة أردنية” ولا عن “مشروع هاشمي” لإعادة رسم خرائط المنطقة، بل تكشف – بوضوح – عن أمر مختلف تماما:
ملكٌ يرى الحرب قادمة
ويسعى إلى تقليل كلفتها الإنسانية والسياسية
لا اقتناص نتائجها.
الملك عبد الله الثاني، وفق ما توثقه محاضر الاجتماعات مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير (25 شباط 2003)، كان تركيزه مُنصبًّا على:
-منع انهيار الدولة العراقية
-تجنب الفوضى الأمنية
-حماية الأمن القومي الأردني من ارتدادات الغزو
-ومحاولة أخيرة لحقن الدماء عبر طرح خيار المنفى لصدام حسين
*هذا ليس خطاب طامع، بل خطاب دولة صغيرة تُدرك ثمن الحروب الكبرى، وتعرف أنها أول من يدفع الفاتورة… وذلك من أبسط حقوقها ..
أما الإشارات العابرة إلى “نفوذ هاشمي” أو اسم الأمير الحسن بن طلال، فهي لم تصدر كأجندة أردنية، بل كـ:
-توقّعات بريطانية
-أو طروحات فردية
-أو نقاشات افتراضية داخل دوائر غربية كانت تبحث عن أي بديل محتمل…
**والدليل القاطع:
الولايات المتحدة وبريطانيا رفضتا الفكرة صراحة، واعتبرتا أن الأمير الحسن
“ليس ضمن حساباتهما”…
بل إن الموقف الرسمي الأردني نفسه تنصّل علنا من أي تحركات فردية، عندما شارك الأمير الحسن في مؤتمر للمعارضة العراقية عام 2002، ووصفت الحكومة الأردنية مشاركته حينها بأنها اجتهاد شخصي لا يُعبّر عن موقف الدولة.
فأي دولة هذه التي يُراد تصويرها كمتآمرة، بينما:
-تحذّر من الحرب قبل وقوعها
-تقود تحركا عربيا لوقفها
-تدين قتل المدنيين بعد اندلاعها ..
-وتُسجّل موقفًا ثابتا بأن العراق دولة يجب أن تُحمى لا أن تُستثمر الكوارث فيها؟
**إن أخطر ما في هذا الادعاء ليس فقط كذبه، بل توقيته وسياقه…
فإعادة تدوير هذه الرواية اليوم، عبر منصات معروفة الارتباط بأجندات أيديولوجية منبوذة، لا يمكن فصلها عن توترات سياسية معروفة، ولا عن محاولات ضرب الثقة بين الدولة الأردنية وبيئتها الشعبية…
والأردن، تاريخيا، لم يكن دولة مشاريع توسُّع، بل دولة توازنات…
لم يبنِ شرعيته على استعادة عروش الماضي، بل على حكمة البقاء في إقليم يشتعل.
*من يقرأ الوثائق بضمير الباحث لا بنية التحريض، يُدرك حقيقة واحدة:
– الأولوية القصوى للملك عبد الله الثاني كانت منع الحرب، لا اقتسام غنائمها.
*وهنا، لا أدافع عن الدولة لأنها دولتي فحسب، بل لأن الحقيقة لا تحتمل المساومة.
فالدفاع عن الأردن لا يكون بالصراخ والشتم ولا بالتخوين، بل بكشف الكذبة فقط…
وترك الوقائع تتكلم.
إحسان الفقيه زاوية إخبارية متجددة