التعويض النفسي ودوره في تجاوز المحن

للبشر خصائص عقلية ونفسية تتصل بعملية التفكير، من أبرزها خاصية “التعويض”، وهي محاولة يلجأ إليها العقل البشري في ظروف المحن والأزمات والسقوط، بغرض الشعور برضا النفس، كنوع من التخفيف ورفع الروح المعنوية.

فالتعويض من خلال علم النفس يعد من آليات الدفاع التي يعمل من خلالها الفرد لحماية نفسه واستبدال الحرمان، أو التغلب على الصفات السلبية الموجودة، أو الواقع السلبي الذي يعيش فيه.

فربما كانت فتاة مثلًا مفتقدة في مراهقتها للإطراء في ملبسها ومظهرها وهندامها، فتتجه طموحاتها بشكل تلقائي إلى أن تكون عارضة أزياء في المستقبل لتعويض هذا الحرمان وإثبات الذات.

وقد نرى تطبيقا عمليا لخاصية التعويض لدى كثير من ذوي الإعاقة الجسدية، إذ يتجهون إلى ممارسة ألعاب القوة ورفع الأثقال والمشاركة في بطولات محلية ودولية في هذا المجال لذوي الإعاقة، لأنها بالفعل ترفع معنوياتهم وتعوضهم عن الشعور بالنقص أو الدونية وفقًا للمشاعر التي تسيطر عليهم.

من الأمثلة الظاهرة في هذا العصر على خاصية التعويض التي أثرت على مسار الشعوب والأمم، الشعب الياباني الذي خرج من الحرب العالمية بهزيمة مدمرة، خاصة بعد تعرضه للعدوان البربري الأمريكي بإسقاط قنبلتين نوويتين على هيروشيما ونجازاكي، للإسراع في إنهاء الحرب وإرهاب حلفاء الأمس وأعداء الغد.

استطاع الشعب الياباني أن ينهض من جديد لبناء اليابان، واستطاع خلال فترة وجيزة من إحداث نقلة بعيدة خاصة في مجال الاقتصاد، إذ صار لليابان اقتصاد قوي يعد من أكبر مصادر القلق الاقتصادي للولايات المتحدة نفسها.

مفتاح هذه النهضة، هو استلهام اليابانيين القوة من تاريخ أجدادهم الأوائل، وتقاليدهم التليدة في الفروسية وحب الوطن والشغف بالمعرفة، فكانت هذه المشاهد هي لُبّ عملية التعويض التي أثرت في إعادة بناء اليابان.

ومن هذه النماذج كذلك: انتصار العرب على الإسرائيليين بعد هزيمة الإذلال التي تلقتها الدول العربية في نكسة 1967، تلك الهزيمة التي عززت أكاذيب الصهيونية حول الجنس العربي المتخلف أبد الدهر، وحول الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، فسادت حالة من اليأس والهزيمة النفسية لدى الشعوب العربية جميعا، وفي هذا التحول من الهزيمة إلى النصر كان التعويض يرتكز على استدعاء البُعد العقدي واستحقاق الدعم الإلهي لكونهم يمثلون معسكر الحق وعدوهم الصهيوني يمثل معسكر الباطل، ويرتكز كذلك على استدعاء الرصيد الحضاري لهذه الدول ذات الحضارات العريقة، مقابل دولة لقيطة تكونت منذ عقود بجمع شتات اليهود في أصقاع الأرض.

هذا التعويض خلّص شعوب وجيوش العرب من قيد الشعور بالدونية والضعف مقابل التهويل من قوة العدو وتضخيمها، خاصة وأن الاحتلال الصهيوني قد برع في استغلال دوافع الأمان لدى الإنسان العربي بإثارة الخوف والفزع لإرهاب الشعوب، كما حدث في مذبحة كفر قاسم 1948 على يد العصابات الصهيونية لإرهاب المواطنين الفلسطينيين العرب المسالمين ودفعهم تحت تأثير الرعب إلى مغادرة أراضيهم، وكما فعل إبان حرب الاستنزاف بقصف مدرسة بحر البقر بإحدى قرى محافظة الشرقية بمصر، والتي كانت مجزرة وحشية لبث الرعب وإجبار المصريين على الاستسلام للشروط الإسرائيلية.

عملية التعويض هي حافز عظيم لشعوبنا التي أنهكتها الحروب كغزة وسوريا في إعادة البناء وتجاوز المحن وأسباب اليأس والإحباط، لكن ذلك لا يتأتى إلا في حال اكتمال الوعي الفردي والجماعي.

فهناك تعويض سلبي أجوف يتمثل في التمحور حول الماضي والتاريخ والخصائص المُميِّزة من عقيدة وحضارة ونحوه، والاكتفاء بذلك، والانكفاء على أمل زائف بأن هذه الخصائص كفيلة بذاتها للنهوض.

بل لابد من إدراك ضرورة التعاطي مع الواقع والسعي لامتلاك الأدوات وبذل الجهد وإدراك التحديات والمخاطر، وفي هذه الحال تكون هذه الخصائص العقدية والحضارية والتاريخية بمثابة الروح الدافعة للعمل والنهوض وتجاوز المحن، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

الشارع الأمريكي يؤثر على القرار السياسي… الوهم الأكبر

لو كان الوهم يُعَبّأ في قوارير لبيعها، حتما كنا سنقرأ على ملصقاتها عبارة: صنع في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *