كل شيء كان يشير إلى انتصار غزة ومقاومتها على العدو الصهيوني، صمود الشعب، واستمرار الفصائل في الإثخان في العدو، وفشل نتنياهو في تحقيق أي من أهدافه، وفرْض المقاومة شروطها على الكيان الإسرائيلي، والنزوح الأسطوري لشعب غزة من الجنوب إلى الشمال، وملحمة تبادل الأسرى التي افتكّت خلالها المقاومة – ولا تزال- بالأسير الإسرائيلي الواحد العشرات من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وهذه الدقة العالية في إدارة مشهد صفقة تبادل الأسرى من قبل المقاومة.
وفي ظل أفراح النصر التي غمرت الفلسطينيين وكل الغيورين من أبناء أمتنا، خرج الملثم أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام، ليبث نبأ استشهاد عدد من القيادات البارزة في كتائب القسام، كانوا قد ارتقوا منذ شهور إبان الحرب.
أعلن للمرة الأولى نبأ استشهاد محمد الضيف قائد هيئة أركان القسام، ومروان عيسى نائب قائد أركان القسام، وغازي أبو طماعة قائد ركن الأسلحة والخدمات القتالية، ورائد ثابت قائد ركن القوى البشرية، ورافع سلامة قائد لواء خان يونس.
- إعلان نبأ استشهاد هذه المجموعة القيادية المناضلة له عدة دلالات:
أولًا: يتسق هذا الإعلان مع عبقرية أداء المقاومة المعتادة في مراعاة التوقيت، فقد أتى في ذروة أفراح النصر، التي أظهرت التفاف الحاضنة الشعبية حول المقاومة والاعتراف بأنها فخر فلسطين ودرعها الواقي ضد الاحتلال، وهذا من شأنه أن يرفع أسهم المقاومة لدى الشعب الفلسطيني ويعزز التفافه حولها في غزة وسائر فلسطين المحتلة، إذ أنه يلفت أنظار الشعب الفلسطيني والأمة بأسرها إلى أن المقاومة التي ركّعت الاحتلال لم يكن الثمن الذي قدمته هينا، حيث أخفت جراحها ومضت في طريقها، بعد أن قدمت من أجل القضية الفلسطينية سادتها ورموزها القيادية الرفيعة، لذلك لم أتعجب عندما انطلقت فور هذا الإعلان مسيرات بمدن الضفة الغربية تنعى وتشيد بقادة المقاومة الذين استشهدوا، كما نعاهم الفلسطينيون في مدن عدة عبر مكبرات الصوت على مآذن المساجد.
ثانيًا: الإعلان يتضمن نوعًا من الإذلال والإهانة للعدو الإسرائيلي، إذ أن المقاومة واصلت أداءها القتالي على هذا النحو من الجسارة والقوة التي جعلتها تفرض شروطها على الاحتلال، كل هذا تم في غياب القوة الأساسية الضاربة من قياداتها، فكانت المقاومة كفريق كرة قدم يقول للفريق المنافس: هزمناكم باللاعبين الاحتياطيين.
ثالثا: الإعلان رسالة واضحة للعدو الإسرائيلي، بأنه مهما أوتي من قوة لضرب المقاومة، فإنها لم ولن تعاني أبدا من الفراغ القيادي، وهذه ميزة كبيرة تميزت بها المقاومة، كلما مات منهم قائد قام قائد آخر، وهذا بلا شك يشير إلى أن المقاومة تقاتل عن عقيدة، هي التي ترفد عناصرها بالشجاعة والبسالة والاستمرار في المضي على الطريق، تبرز تعلقهم بالمنهج لا بالأشخاص، وكأنهم كانوا شاهدين للمقولة الخالدة للصديق أبي بكر رضي الله عنه: «من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت»، وليس هذا تشبيها للأشخاص بالأشخاص وإنما هو تشبيه للمبادئ بالمبادئ.
رابعًا: هذه المصارحة التي تضمنها الإعلان باستشهاد هذا العدد من القيادات، تدل على أن حركة حماس تدشّن لمرحلة جديدة، ولهيكلة جديدة، تناسب المرحلة المقبلة، تقودها شخصيات جديدة غير معلنة، وهذا بلا شك سوف يرهق استخبارات الكيان الإسرائيلي، وهذا بدوره يحمل رسالة أخرى تؤكد أن الحرب لم تضع بعد أوزارها، وإنما هي بدء مرحلة جديدة على طريق التحرير.
خامسًا: تضمن الإعلان الذي أبرز تلك النماذج الملهمة وتضحياتها، عملية شحن هائلة للفلسطينيين والأمة بأسرها، للاصطفاف خلف القضية الفلسطينية بكل الوسائل الممكنة.
استشهاد هؤلاء القادة الأبطال، يذكرنا بمعركة مؤتة التي خاضها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حيث استشهد قائد الجيش زيد بن حارثة، فتولى القيادة جعفر بن أبي طالب، فقاتل حتى استشهد، ثم تولى القيادة عبد الله بن رواحة، والذي قاتل حتى استشهد، لتقع الراية بعد ذلك في يد سيف الله خالد بن الوليد، فهي راية يسلمها البعض إلى البعض، وهكذا المقاومة، يسلم كل قائد الراية إلى غيره عندما تنتهي مهمته في الحياة، بدءًا من الشيخ أحمد ياسين، وحتى محمد الضيف ورفاقه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.