هل الطبع يغلب التطبّع؟

يأتي المثل الشعبي وكذلك الحكمة، ضمن الموروثات الشعبية التي مصدرها ملاحظة تجريبية أو نصيحة شعبية أو موقف ساخر من عادة اجتماعية أو نظام سياسي، وكثيرًا ما تكون الحكمة أو المثل يناقضه غيره، ويرجع ذلك إلى ظاهرة التغير الثقافي الاجتماعي التي تطرأ على المجتمعات عبر الحقب الزمنية المختلفة.

هذا التناقض يجعل من هذه الموروثات من حكم وأمثال، قابلة للنقد والتمحيص ووزنها بالميزان الصحيح، إذ إنها ليست نصًا معصومًا، بل تعبير عن حالات وتجارب إنسانية حدثت في ظروف معينة، لا تعبر عن أصل عام ثابت في البشرية.

ومن هذه الأقوال التي تحتاج إلى تمحيص (الطبع يغلب التطبع)، وتكاد تكون هذه المقولة راسخة في الوجدان العربي بشكل يرتقي إلى اليقين بمدلولها ومعناها.

لكن عندما نضع هذه المقولة في ميزان الشرع الذي هو عصمة أمر المسلم، سوف نجد أنها ليست قاعدة مطردة، فهناك من الناس من يغلبه طبعه حتما، لكن هناك منهم من يسعى لتغيير طباعه السلبية وينجح في ذلك.

خطورة اعتبار هذه المقولة قاعدة مطردة في البشر، تتمثل في كونها مقولة محبطة موهنة لعزائم من يرغبون في تغيير أنفسهم للأفضل، وهي في نفس الوقت عند آخرين منطق تبريري لسلبياتهم، فمن يطلق العنان لغضبه مثلا ولا يكبحه، يعلل ذلك بأن طبعه الغضب وهكذا في كل طبع سلبي، يبرر صاحبه لنفسه بأن الطبع يغلب التطبع.تغيير الطباع ونيل أحسن الخصال والأخلاق أمر ممكن، والدليل على ذلك أن الله تعالى أمرنا في كتابه الكريم وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن نتحلى بالأخلاق الحسنة، ومعنى هذا أن الأخلاق والطباع قابلة للتغيير، فالله تعالى لا يأمر عباده إلا بما هو في وسعهم، قال تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).

ولذلك يقول الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين: «لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حسنوا أخلاقكم».

وهذا حق لا مرية فيه، فإذا كانت الطباع لا تتغير، وحُكم على البخيل بأنه سوف يظل بخيلا، وعلى الجبان بأن يظل جبانا، وعلى الغضوب بأن يظل قابعا في أسر غضبه، فحينئذ لن تكون هناك فائدة من كل الوصايا النبوية بتحسين الأخلاق كقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)، والشاهد هنا: لمن حسن خلقه.

وحينئذ هل سيكون معنى لأن ينهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مساوئ الطباع كقوله صلى الله عليه وسلم (لا تغضب)؟

والمشاهد أن طباع الحيوانات ذاتها قد تتغير، فتُستأنس الصقور، ويتحول الفرس من الجماح إلى سلاسة الانقياد، والكلب المعروف بالشره في الأكل يعلمه صاحبه التأدب والتخلي عن بعض الأطعمة كما هو مشاهد فيستجيب، فكيف بالإنسان الذي وهبه الله العقل وأنزل عليه الرسالة!

وكم من إنسان تبدلت طباعه، فتحول من الطبع إلى نقيضه، ولا يستطيع أن ينكر هذا من يطلق بصره في الواقع الذي يعيش فيه. لكن لا شك أن تغيير الطباع يحتاج إلى جهد وبذل، وأول ذلك اقتناع المرء بضرورة التغيير، فطالما أن الإنسان لا يعترف بأن لديه مشكلة في طباعه، فلن يتحرك قيد أنملة لافتقاد الدافع. كما أن من أهم أسباب تغيير الطباع تكلف الصفة أو الطبع الحسن، ومع استمرار التخلّق به يصبح بعد ذلك عادة وسجية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم)، ويقول: (ومن يتصبر يصبره الله). فتغيير الطباع ممكن، والقول بأن الطبع يغلب التطبع ليس قاعدة مطردة، بل هناك من يسعى للتغيير فيتغير، وهناك من يركن إلى طبعه فيطغى عليه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

آفة تبرير الأخطاء

الخطأ طبيعة بشرية، فما من إنسان إلا ويقع في ارتكاب الأخطاء، والنبي صلى الله عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *