تسارع إيقاع الحياة بشكل صاخب، وطغت المادية على البشر بشكل مخيف، وفي غمرة التعاطي مع هذا اللون القاسي من الحياة، ننشغل عن الحقيقة الكبرى التي أجمع عليها كل الأحياء، مهما اختلفت مللهم وتوجهاتهم، إنها حقيقة الموت التي لا مناص عن تذكّرها والتفكّر بها.
اقتضت الحكمة الإلهية خفاء موعد الموت عن العباد، فلو أن الإنسان يعلم أجله لعاش مهمومًا ينتظر الموت، ولتعطلت الحياة ولم يقم الناس بمهمة الاستخلاف في الأرض وإعمار الكون بطاعة الله تعالى.
ولو أن العبد يعلم تحديدًا وقت موته، لهون ذلك لديه أمر المخالفة والعصيان وشجعه على التفريط طيلة العمر، حتى إذا اقترب الأجل تاب وأصلح باعتبار أن الأعمال بالخواتيم، وقطعًا هذا منافٍ للغاية من الخلق {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
ورغم أن الموت أقرب غائب يُنتظر، ورغم أن كل ما هو آت قريب، إلا أن هناك رسائل ربانية تأتي العبد وتنذره بدنو أجله، وتذكره باقتراب الموت لتنتشله من غفلته.
فأول هذه الرسائل مداهمة الموت لمن حولنا، فكم من حبيب أو قريب أو جار أو صديق، كان يضحك معنا ملء فيه، يرسم في مخيلته معالم مستقبله ويبرم للغد موعدًا ولا يعلم أن أكفانه قد نسجت.
وقد كان الصالحون من هذه الأمة يعتبرون بالجنازات، ويدركون أنها آجالٌ قد انقضت تذكِّر بآجال على الأثر، فكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا رأى جنازة قال: «امض ونحن على أثرك».
ومرت بالحسن البصري رحمه الله جنازة فقال: «يا لها موعظة ما أبلغها وأسرع نسيانها، يا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة، ثم قال: يا غفلة شاملة للقوم كأنهم يرونها في النوم ميت غد يدفن ميت اليوم».
وأخص من ذلك موت أهل الدار من الوالدين أو الإخوة أو الأبناء أو الزوج، فما من أهل بيت إلا وفجعوا في حبيبهم، وهي لعمر الله أبلغ رسالة وأبين إنذار.
ومن هذه الرسائل المرض الذي يعتري الإنسان، فلو أن بناءً قديمًا تصدّعت جدرانه وتشققت حوائطه فيكون ذلك إيذانًا بسقوطه، ومن ثم يفطن أهل الدار لضرورة ترميمه وإصلاحه قبل أن يخر عليهم السقف من فوقهم.
فهكذا المرض، ينذر الله به عباده ليستعدوا ويتوبوا قبل الممات، وها هو الحسن يقول: «من لم يمت فجأة مرض فجأة، فاتقوا الله واحذروا مفاجأة ربكم».
ولما دخل الناس يعودون محمد بن واسع في مرض موته أسدى إليهم نصيحة مودع، فقال: « يا إخوتي يا إخوتاه هبوني وإياكم سألنا الله الرجعة فأعطاكموها ومنعنيها، فلا تخسروا أنفسكم».
وهذا الزاحف الأبيض الذي يحتل شعر الإنسان ولحيته، لهو من أوضح تلك الرسائل، فالشيب يدل على كبر الإنسان وسرعة دنوه من أجله، فيذكر الإنسان بما استدبر، ويأخذ بتلابيب قلبه إلى ما يستقبل، فيحاسب نفسه على ما مضى، ويجدد العهد مع الله فيما هو آت.
قال الله تعالى {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}، وفي معنى النذير يقول ابن كثير: «روي عن ابن عباس، وعِكْرِمَة، وأبي جعفر الباقر، وقتادة، وسفيان بن عُيَيْنَة أنهم قالوا: يعني: الشيب».
لما حضرت معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: أقعدوني. فأقعدوه فجعل يذكر الله تعالى ويسبحه ويقدسه ثم قال: الآن تذكر ربك يا معاوية بعد الانحطام والانهدام؟ ألا كان ذلك وغصن الشباب نضير ريان؟ وبكى حتى علا بكاؤه ثم قال:
يا رب ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي، اللهم أقل العثرة، واغفر الزلة، وجد بحلمك على من لم يرج غيرك، ولا وثق بأحد سواك».
يا خاضب الشيب بالحناء تستره…سل المليك له سترًا من النارِ
لن يرحل الشيب عن دار ألمّ بها…حتى يرحل عنها صاحب الدارِ
البدار البدار قبل الموت، والاستعداد ليوم الرحيل، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، وأوصي نفسي وإياكم بوصية النبي صلى الله عليه وسلم (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) رواه البخاري.
نسأل الله تعالى أن يتوفنا على الإيمان، وأن يجعل الموت راحة لنا من كل شر، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.