تكامل الأجيال لا صراع الأجيال

كم نحن مأزومون في تناول المصطلحات الجديدة، كثيرًا ما نتلقفها ونمررها دون إدراك لمغزاها، وبلا تحرير لمعناها، فتغدو كأنما هي مُسلَّمة أو شيء قطعي.

من هذه المصطلحات المعاصرة التي راجت بيننا دون إدراك حتى لتأثيرها الاجتماعي، مصطلح «صراع الأجيال»، وهو مفهوم يعزز من فكرة أن لكل جيل سمات وخصائص تجعله في حال مفاصلة شعورية عن الجيل السابق عليه، فالأبناء يتهمون الآباء بأنهم أسارى الماضي ولم يتكيفوا مع التطورات الحادثة ومن ثم لا يفهمون الحياة، ويريدون أن يفرضوا رؤاهم وتصوراتهم على جيل أكثر انفتاحًا. بينما الآباء يتهمون الأبناء بأنهم مارقون عن الإطار القيمي السليم الذي نشأ الآباء عليه لا يحملون مقومات الصمود التي كانت لآبائهم، بعيدون عن الجدية متهورون متسرعون يهتمون بالشكليات لا المضامين.

ولقد عززت الدراما العربية مع الأسف فكرة صراع الأجيال، ومن هذه الأعمال الذي تناولتها مسلسل عرض في منتصف التسعينيات بعنوان «لن أعيش في جلباب أبي»، وكما هو واضح من عنوانه، أنه يحمل فكرة متمردة من الجيل الحالي على السابق، وكثيرًا ما تطل هذه الأعمال بفكرة أن الآباء لا يفهمون أبناءهم حتى أصبح مبررًا للانحراف.

أعترف بأن هذا الاختلاف موجود، لكنه تجاهل حقيقة أنها ليست قاعدة مطردة، ولا يعبر عن أوضاع عامة، فهناك كثير من الحالات يكون هناك تفاهم وتقدير لطبيعة الاختلاف، والنظر إليه على أنه سياق تكاملي، يستفيد الأبناء من خبرات الآباء، ويفسح الآباء للأبناء المجال لإكمال المسيرة لأنهم أكثر تفاعلا مع التطورات الحادثة في شتى المجالات.

لكن الخلل قد وقع في جعل مدلول هذا المصطلح أمرًا حتمي الوجود، وهذا مكمن الخطر، إذ إن تعامل المجتمع معه على هذا النحو، يكرس للشقاق والصدام والعمى عن رؤية المشتركات بين الأجيال والأرضيات التي يمكن الالتقاء والبناء عليها، فمثلا وفقا لهذا المفهوم يترجم كل طرف سلوك الآخر المخالف على خلفية وجود صراع بشكل نمطي، أي أنه عرض لداء مستوطن، بدلًا من أن يتجه إلى تفسير هذا السلوك من خلال ما يكتنفه من عوامل آنية نفسية أو اجتماعية.

لا شك أن هناك خلافا بين القديم والجديد، بين السابق واللاحق، بين الآباء والأبناء، لكن هذا شأن الحياة والأحياء في العموم، وقد تجد التوأمين قد ولدا في توقيت واحد وهيئة واحدة، وبينهما في اختلاف الشخصية كما اختلاف المشرقين.

الواقع يشهد أن هناك دولًا وشركات وكيانات اقتصادية ضخمة، تكاملت فيها الأجيال، جيل يسلم جيلًا، يعطيه عصارة خبراته والأصول الثابتة للمجال، ثم يقول: انطلق، هذا أوانك، هذا عصرك، أنت رجل هذه المرحلة، أنت الأقدر على مواكبة التطورات، ولا شك أن هناك خلافًا في الرؤى بين تلك الأجيال، لكن الاختلاف شيء والصراع شيء آخر، الاختلاف يمكن تذويبه أو تلافيه أو الوصول إلى نقطة التقاء وحل وسط، أما الصراع فهو شيء آخر يعبر عن نظرة إقصائية وقناعة بأن الآخر لا يصلح، عليه أن يلتزم الصمت.

يتعين علينا ألا نسلم لكل مصطلح وافد أو جديد دون أن نعين مدلولاته وحقيقته، فرب كلمة شائعة أو مثل سائر يستبطن معاني تمثل خطورة على سلامة المجتمع واستقراره ونحن لا ندري، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

حاجة العقل إلى الوحي

لقد أعلى الإسلام من قيمة العقل، وأولاه عناية بالغة، فجعله مناط التكليف، وجاء الخطاب الإيماني …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *