أفسِحوا للتائبين

قال بعض أهل الوجع: الحمد لله الذي جعل الرزق في السماء {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}، ولو كان في الأرض بيد الناس لمتنا جوعًا، الحمد لله الذي جعل التوبة بيده يفتح أبوابها ما لم تطلع الشمس من مغربها، ولم يجعلها بيد العباد وإلا هلكنا بذنوبنا وحوكمنا عليها بأثر رجعي.

من منا من لم يجب داعي الهوى؟ ومن منا لم تغلبه نفسه وهو على وحدانية الله شاهد؟ لن يكون لنا وجود إذا لم نفعل، فهكذا أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» صحيح مسلم. ولقد أوجب الله التوبة على عباده جميعًا وعلّق فلاحهم عليها {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور: 31]، ومن الذنوب التي ينبغي على صاحبها أن يتوب، ذنب الظلم الذي يصدر من البعض تجاه التائب.

يظلمون التائب عندما يلوحون له في الغدوة والروحة بذنوبه السابقة التي تبرأ إلى الله منها، ويعيرونه بها، ويدقون الطبول عليها حينًا بعد حين، ولو بحث هؤلاء في سيرة خير القرون، لما وجدوا هذا المسلك الجاهلي مع التائبين، فلم يعيروا أحدًا بأنه كان يسجد لصنم، فإن كان هذا الحال مع سابقة الشرك، فكيف مع سابقة ما هو دونه؟! لم يكن هذا دأبهم، بل كانوا يفرحون بتوبة العباد وانضمامهم إلى خندق التائبين، كيف لا، ورب العزة تبارك وتعالى يفرح بتوبة عبده فرحًا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله « لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كانَ رَاحِلَتُهُ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ كذلكَ إِذ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ «. رَوَاهُ مُسلم وقد ورد في كتاب الزهد لأحمد بن حنبل أن الحسن البصري قال «كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ قَدْ تَابَ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ».

فكيف يطيق قوم قد خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم أن يعيروا إخوانهم بالذنوب؟! النيل من التائب فيه إعانة للشيطان عليه، وربما انقلب من بعد توبته ونكص على عقبيه بكلمة تخذيل من أخيه المسلم، ولذا حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المسلك، فقد أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: (أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ قَالَ اضْرِبُوهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ أَخْزَاكَ اللَّهُ قَالَ لَا تَقُولُوا هَكَذَا لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ)، وحول ذلك يقول الإمام ابن حجر رحمه الله «وَوَجْهُ عَوْنِهِمُ الشَّيْطَانَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يُرِيدُ بِتَزْيِينِهِ لَهُ الْمَعْصِيَةَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْخِزْيُ فَإِذَا دَعَوْا عَلَيْهِ بِالْخِزْيِ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ حَصَّلُوا مَقْصُودَ الشَّيْطَانِ».

وما أجمل كلمات ابن القيم رحمه الله وهو يحلق في كتابه الماتع «طريق الهجرتين» حول مشهد الحكمة في تخلية الله بين العبد وبين الذنب، فأورد لذلك حكمًا عظيمة جليلة، ذكر منها: «أنه يوجب له الإِحسان إلى الناس والاستغفار لإخوانه الخاطئين من المؤمنين فيصير هجِّيراه – أي عادته-: ربِّ اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، فإنه يشهد أن إخوانه الخاطئين يصابون بمثل ما أُصيب به، ويحتاجون إِلى مثل ما هو محتاج إليه، فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم يحب أن يستغفر هو لأخيه المسلم».

كم من تائب بات في فراشه يتململ كالسقيم، تشق دموعه طريقها على خديه قهرًا وهو يجد إخوانًا في الإيمان يزدرونه ويحتقرونه، وينابزونه بتاريخه في مخالفة الرحمن، فيُخضعون التعامل معه لمشاعرهم لا لتعاليم دينهم، فذلك ذنب يحتاج إلى توبة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

أحوال السائرين إلى رب العالمين

العبد منذ أن جاء إلى هذه الدنيا في سفر إلى ربه تعالى، كلما مر عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *