لا شك أن القناعة والرضا بما قسمه الله للإنسان وعدم التسخط عليه هو أمر عظيم محمود، جاء الإسلام بالتأكيد عليه، فقد حث عليه القرآن الكريم وتضمنته الوصايا النبوية.
بيد أن كثيرا من الناس يسيء التعامل مع شأن القناعة، ويظنون أنها تتعارض مع طلب المعالي وإطلاق عنان الطموح، فقعدت بهم هممهم عن التخطيط للمستقبل وطلب الريادة والتميز والتفوق بحجة أنهم قانعون بأحوالهم راضون بما قسم الله لهم.
وهذا لا ريب جهل عظيم، فالقناعة تعني الرضا وعدم التسخط على نصيب المرء ولو كان قليلا وشكر المنعم سبحانه عليها مهما قلّت، وليس معناها ألا يطمع الإنسان في فضل الله وأنعمه، وليس معناها أن يغض المرء بصره عن المستقبل، وإلا فبم نفسر ادخار النبي صلى الله عليه وسلم لأهله قوت السنة، وكيف نفهم دعاء سليمان عليه السلام ربه بأن يهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده!
نحن نُسلم بأن الطمع والجشع خلقان ذميمان ولا شك، إلا أن علو الهمة في طلب الكمال وقوة العزيمة في تحقيق الأهداف من أهم أخلاق المؤمن الصادق، بل العاقل، كما يقول ابن الجوزي: «من أعمل فكره الصافي دلّه على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضا بالنقص في كل حال، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيبا…..
كنقص القادرين على التمام.
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السموات، لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد لرأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي له أن يطلب الممكن، والسيرة الجميلة عند الحكماء خروج الناس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل». انتهى كلام ابن الجوزي.
دعانا الله تعالى إلى طلب الكمال ومعالي الأمور، فقال حاكيا عن عباده المؤمنين دعاءهم: (واجعلنا للمتقين إماما)، وقد امتلأ تاريخنا العظيم بقصص الذين كانت هممهم تناطح الجبال، فهذا هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، يحكي عن نفسه الطموحة فيقول: «إن لي نفسا تواقة، وإنها لم تعط من الدنيا شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، فلما أعطيت ما لا أفضل منه في الدنيا: الخلافة، تاقت إلى ما هو أفضل منه: الجنة».
ويشرح لنا رؤيته أكثر فيقول: «إن لي نفسا تواقة، تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك، فتزوجتها، ثم تاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، ثم تاقت نفسي إلى الجنة».
وهذا المسلم الداهية أبو مسلم الخراساني الذي أسقط دولة بني أمية ووطد أركان الدولة العباسية، كانت له طموحات عظيمة ترفعه إليها همته العالية، حتى أنه عندما كان صغيرا كانت أمه تراه يتقلب على فراشه، فتقول له: أي بني، ما بك؟ فيقول: همة يا أمي تناطح الجبال. ويقول عنه الإمام الذهبي: «كان ذا شأن عجيب ونبأ غريب، رجل يذهب على حمار من الشام حتى يدخل خراسان، ثم يملك خراسان بعد تسعة أعوام، ويعود بكتائب أمثال الجبال، ويقلب دولة ويقيم دولة أخرى، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الفادحة الشديدة فلا يُرى مكتئبا».
فينبغي إذن للمؤمن العاقل أن تكون له طموحات عظيمة تمكنه من تحقيق التفوق والنجاح، إرضاء لله وتحقيقا لعبودية الله في الأرض، وأن يكون صاحب همة عظيمة لا ترضى بالدون، لأنه كما يقال: «من يرمي بقوسه نحو القمر، فحتى إذا لم يصبه سيقع سهمه بين النجوم»، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.