يقولون إن النصيحة في السر نصيحة، والنصيحة في العلن فضيحة، ولكن عندما يتعلق الأمر بالشأن العام للأمة وثقافتها، فحبذا النصح لو بلغ الآفاق، وبلغت النصيحة القاصي والداني، ليتم الناصح مهمة البلاغ، ويراجع من بُذِلت له النصيحة نفسه، ويفتش في واقعه.
وانطلاقا من ذلك، أتناول ما صرح به الدكتور طارق الحبيب على شاشة إحدى الفضائيات، وتحامله على جيل الطيبين، جيل الآباء الذين أشفقت عليه نفسي، واستحييت ألا أذب عنهم حين قال الدكتور “الله لا يعيد جيل الطيبين”، ثم شرع في تجهيلهم تربويا، ووصفهم بأنهم كانوا سلطويين مع أبنائهم، يدوسون عليهم، وفق تعبيره، ويستحضرون الآيات والأحاديث لفرض وصايتهم وتقليديتهم التفكيرية على الأطفال.
وبادئ ذي بدء أقول، إن للدكتور طارق الحبيب وهو الخبير الاستشاري النفسي، أن يطرح رؤاه التربوية كيفما شاء ووقتما شاء، وله أيضا أن ينتقد الوسائل التربوية التي يرى خطأها في مجتمعاتنا، ولكن أرى أنه لم يكن هناك ما يبرر تجهيله لجيل الطيبين، والاكتفاء بطرح أفكاره التربوية وتصويب الأخطاء في العموم، ولعله لو اتبع هذا النهج لم يكن ليواجه هذا الهجوم القوي عليه. هذا التجهيل التربوي لجيل الطيبين على وجه التعيين، من شأنه أن يكرّس لفكرة صراع الأجيال، التي أخاله يرفضها كما أرفضها أنا وغيري، ويرفضها التربويون والمصلحون، لأنها من المفترض أن تكون علاقة تكامل وتحاور لا علاقة تضاد وشقاق. الهجوم الذي شنه الدكتور طارق على جيل الطيبين الذين أخرجوا للدنيا أمثاله من الرموز العامة، من شأنه أن يعمق الفجوة بين هذا الجيل وسابقه، ويزيد من تمردهم على الجذور، وهذا التمرد بالأساس يعاني منه المجتمع بأسره، فضلا عن كون هذا الهجوم الذي يعمق الفجوة، يعطي الجيل الحالي ذريعة ليحمّل إخفاقاته وعيوبه وانحرافاته على جيل الطيبين، مع أنها ستكون قسمة ضيزى، فالجيل الحالي لم يربه الآباء وحدهم، وإنما هو نتاج لتربية بيئة منفتحة وثقافة سائلة ومجتمع غافل بكل أدواته الإعلامية والتعليمية والثقافية. جيل الطيبين يا دكتور طارق، هو الجيل الذي خرّج لأمتنا الرموز التي تعيش بيننا وتؤثر فينا أمثالك في تخصصك، هو الجيل الذي أخرج لنا العظماء من المفكرين والدعاة والسياسيين والعسكريين والمبدعين والمثقفين. هم جيل البساطة والنقاء وأهل القيم والأخلاقيات التي صرنا نبحث عنها كإبرة في أكوام القش، هم الذين علمونا منذ الصغر أن نقدس الحق والخير، ونعاف ونستنكر الشر والخطأ والرذيلة ومساوئ الأخلاق، هم الذين جعلوا مفردات الحلال والحرام والصح والعيب دستورا لحياتنا، حتى إن حدنا عنها نعود إليه، لأنه غراس طيب من جيل الطيبين. هم الذين علموك يا دكتور طارق احترامك للكبير وتوقيرك للمسن، خلافا للجيل الحالي الذي تعرض للتربية وفق الرؤى الغربية، التي تنهل أنت وغيرك من مدارسها النفسية، فلم يعد لديهم ـ إلا من رحم الله ـ ذلك التوقير وحفظ منزلة الكبير كما عهدناها في أنفسنا نحن أبناء جيل الطيبين.
لو أن جيل الطيبين كان سلطويا مستبدا معنا يا دكتور طارق، لما كنا متيّمين بمحبتهم، ولتمردنا عليهم بعد أن كبرنا لنستعيد ما سلبونا إياه من استقلالية ذواتنا وشخصياتنا، فلو كانوا سلطويين لشقت الأيام حدا فاصلا بيننا وبينهم، لكننا كبرنا، وعلمنا أن الحزم كان تقويما، وأن النهي كان صونا عن الزلل.
الخطأ ليس في تقويمنا ونحن صغار ونهينا عن الكذب، الخطأ يكمن في كيفية النهي وأسلوبه
جيل الطيبين يا دكتور طارق، هو الذي نشّأنا على الصلابة والصلادة، على الصمود والجدية والصبر على الشدائد، هذا الجيل هو الذي شدّ ظهورنا بأفعاله قبل مقاله، ترك لنا صورا تداعب مخيلاتنا كلما خارت قوانا، فنتذكر ما كانوا عليه من جلد، فتنتفض ذواتنا وتتقد جمراتنا.
يا دكتور طارق، الآيات والأحاديث التي استدعاها جيل الطيبين لتربيتنا ليست من باب فرض الوصاية، إنما هي تنشئة، وأنت خير من يعلم أن السنوات الأربع أو الخمس الأولى تتكون فيها شخصية الطفل، فهل كانوا سيتركوننا ننشأ على الكذب والتلون حتى لا يحجبوا إشراقاتنا وانطلاقاتنا الإبداعية؟ فبم تفسر غزارة وجود المبدعين من جيلك وجيلي ممن تربوا على تلك الأيادي الطاهرة، أيادي جيل الطيبين؟ الخطأ ليس في تقويمنا ونحن صغار ونهينا عن الكذب، الخطأ يكمن في كيفية النهي وأسلوبه، وهذا كان الأولى أن تتحدث فيه.
وأنت كطبيب نفسي له خلفيته الإسلامية، كيف لك أن تعيب على جيل الطيبين استحضار الآيات والأحاديث واتهام هذا الجيل باستخدامها كأداة في فرض الوصاية؟ أو ما علمت يا دكتور طارق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربي الفضائل في الصغار وينهاهم عن المساوئ حتى وهم في سن صغيرة؟ ولعله لا يخفى عليك هذا الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كخ كخ» ليطرحها ثم قال: «أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟».
والحسن وقتها كان صبيا صغيرا لا يتجاوز ثلاثة أعوام، ولم يقل إنه طفل ودعه للهوه، فكما قيل:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا ..على ما كان عوده أبوه
وتلك هي التربية التي دأب عليها الناس منذ القدم، التقويم منذ الصغر مع مراعاة متطلبات المرحلة وكيفية التعامل معها، وتلك هذ التربية التي خرّجت للعالم النبغاء في كل المجالات. ولا يفهم من كلامي هذا تطبيق مبدأ (إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مهتدون)، أو يفهم من كلامي أنها دعوة للتقليد الأعمى للسابقين وتنزيههم عن الخطأ، ولكن هذا الجيل لم يكن ليستحق من الدكتور طارق هذا الوصف وهذا التجهيل على هذا النحو.
لا أريد للدكتور طارق أن يكون حانقا من كلامي، فإنما أعبر عما يجيش في صدري أنا وكثير ممن شاهدوه وسمعوه وهو يجهّل جيل الطيبين، ويا ليت جيل الطيبين يعود، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.