كل شيء في وطني هو ابن الماضي والسنين، لا ينقطع عن الجذور، حتى وجوه الفلاحين المُتعبين تنطق بحديث الأجداد، كل ما فيه يُعبر عن التسلسل الزمني متصل الحلقات، ليس في حقوله نبتة شيطانية، فكل ما فيه مألوف سوى لوثة فكرٍ دخيل.
مظلوم هو النور، حين ينتسب إليه من غرق وأغرق في ظلام الفكر الدامس، مظلوم هو النور عندما تُسرق دلالاته وتُهدى إلى عتمة المنطق.
الأثر يدل على المسير، والبعْرة تدل على البعير، لكن الألقاب لا تُعبر بالضرورة عن صاحبها، وهذا شأن التنويريين في بلدي، يخطفون الأبصار ببارقة الألفاظ، ويخطفون معها مباني العقول والأفهام، ويجعلون من الإظلام تنويرا.
فلْتُبحر كيفما تشاء ووقتما تشاء بين سطور دعاة الفكر المُستنير، ستدرك دون عناء أنها تتمحور حول العبث بثوابت الدين، فأنت تنويري إذا لم يكن لديك مُقدّس تُعليه فوق نظرة البشر الناقدة، أنت تنويري عندما تنزع عن الإسلام تَفرَّده وتَميُّزَه، وتُجرِّده من شموليته وتُذيبه في المناهج الأخرى.
أنت تنويري إذا أخضعت الشريعة لميزان عقلك وذوْقك، وأنت تنويري إذا فصلت حاضر الأمة عن تُراثها، وأنت تنويري إذا رأيت أن أحكام الدين مكانها خيام الصحراء في الأزمان الغابرة لا عصر ارتياد الفضاء.
بخلاف ذلك فأنت ظلامي، إقصائي، رجعي، متخلف، متقوقع، لا تُحسن سوى خطاب الكراهية.
في بلدي تُرك الحبل على الغارب لذات قلم رشيق، كلما زادت تجاعيد وجهها كلما ازداد قلمها رشاقة، وددتُ حقا لو طلبتْ به الحق في مَظَانِّه، وتخلَّت عن عدائها غير المبرر لكل من يحمل فكرة إسلامية أصيلة.
وددتُ لو لمْ تخلط الحابل بالنابل، وفرّقت بين الاعتدال والتشدد، وبين الثوابت والمتغيرات. وددتُ لو أنها ليس لها نصيب من خطاب الكراهية الذي تستخدمه كفزاعة في وجه حَمَلة الشريعة.
يا سيدة قومها لمْ نرَك تُزاحمين الأطباء وعلماء الفلك والجيولوجيا والكيمياء وغيرهم من التخصصات التي لا تمُت إليك بصلة، لأنك ببساطة لستِ من أهل التخصص، فلماذا تُسوِّغين لنفسك الحديث عن مسائل الشريعة وأنت لست من أهل العلم بها؟
لماذا تناطحين نصوص القرآن وتُنكرين حجاب المرأة؟ وما مشكلتك بالأساس مع الحجاب؟ ولماذا لم تهاجمي حجاب الراهبات، ولماذا لا تنتقدين الغرب المتحضر وفي كل بقعة من أرضه صورة مرسومة لمريم أم المسيح عليه السلام وهي ترتدي حجابها كما تخيله الرسامون؟
إن كنت تعتبرين سُفورك وتبرُّجك حرية شخصية، فلماذا لا تعتبرين الحجاب حرية شخصية وتكُفِّي عن مهاجمة الحجاب وذوات الحجاب؟
يا سيدة قومها، ابحثي عن مصانع الإرهاب والتطرف في غير حلقات تحفيظ القرآن، فهي لم تنتج النظرة الشوفينية، ولم تنتج الفكر الإقصائي، ولم تصنع التطرف والإرهاب، إنها الحلقات التي تدرس فيها أرقى القيم الإنسانية وأسمى صور التعامل مع البشر، نُعلّم فيها أبناءنا {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، ونُربيهم في ربوعها على {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا} ونصف لهم سمات النبي بما وصفه ربه {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، ونعلمهم فيها الإحسان إلى أصحاب الملل الأخرى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوك في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم}.
يا سيدة قومها، إن الشوفينية لم ينتجها سوى استبدال الراية الإسلامية التي جمعت الشعوب العربية والأعجمية، برايات أخرى قومية وعرقية ووطنية، فاستحكمت في كل دولة نظرة الاستعلاء على الأوطان الأخرى.
وأما الإرهاب فلم يخرُج من حلقات تحفيظ القرآن، وإنما خرج من رحِم الاستبداد وظروف القهر، ومِن مقابلة أفكار الغلو بالغلو، ومِن ترك لغة الحوار إلى لغة الرصاص والحديد والنار.
السيدة التنويرية صبت جام غضبها على الدكتور أمجد قورشه إزاء مادة مقارنة الأديان التي يُدرّسها في الجامعة الأردنية، وبالذات تناوله نصوصا من العهد القديم وبيان مخالفتها للحقائق العلمية، فعلى الفور اتهمته بازدراء الكتب السماوية والأديان الأخرى، وتبَنِّيه خطابا عدائيا متطرفا.
لكن سيدة قومها لا تسلُّ قلمها على المستشرقين الذين تناولوا القرآن بغرض التشكيك في قدسيته والطعن فيه، ومحاولة ربطه بالتوراة المحرفة واعتبارها أحد مصادره، وامتدحوا الشخصيات القائلة بفرية تاريخية القرآن والزعم بأنه مرحلة تاريخية جاءت مناسبة لحقبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقط، والترويج لنقصان القرآن.
إذا كانت سيدة قومها لا تعطي الحق لأمجد قورشه لأن يُفند الكتب المقدسة لدى الأقلية وهو مجال تخصصه، فقد أعطت لنفسها الحق في أن تخوض في الكتاب المقدس لدى الأغلبية المسلمة وهي ليست من أهل التاريخ ولا من أهل الشريعة، عندما صرّحت بأن قصة نبي الله يوسف وزليخا المذكورة في القرآن مجرد قصة جميلة، وليست تاريخا، فهي تعتبرها من قبِيل علم الأساطير (المثيولوجيا) لأنها لم تثبت تاريخيا بحسب زعمها.
سيدة قومها تعتبر أن الحديث عن الغيبيات – مثل الحور العين وأوصاف الجنة وعذاب القبر ونعيمه – يُكرّس لتغييب العقل والمنطق، وأنه من قبيل غسل الأدمغة للتوجيه في أي اتجاه ونحو أي هدف حتى لو كان تفجير النفس.
ولا أدري هل غاب عنها أن تلك النصوص التي تتناول الغيبيات هي نفس النصوص التي يتناقلها ويدين بها ويتفاعل معها المسلمون عبر أكثر 14 قرنا من الزمان؟ فلمَ لمْ يظهر الإرهاب سوى في عصرنا هذا؟
ولماذا لا تتناول ذات القلم، تلك النصوص التي امتلأت بها الكتب الأخرى والتي أمرت بقتل الأطفال والنساء والشيوخ وبقر بطون الحوامل ونهب البيوت؟ علما بأننا لا نقطع بصحة هذه النصوص في نسبتها إلى الكتب الأصلية.
فإلى متى يستمر هذا التطاول على الدين وثوابته بذريعة التنوير؟ إنه لابد للدولة من وقفة جادة في التصدي لهذا الاستفزاز الذي ربما تتبعه ردة فعل همجية فوضوية للمتسرّعين الجاهلين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.