الرد على ملاحظات حول تيار الصحوة

الفاضل الكريم سلام الله عليك، أما بعد:

فقد استمعت للتسجيل من قبلكم، والذي تنقلون فيه رأي أحد الفضلاء وجُملة من الملاحظات على تيار الصحوة الذي عاصره وعايشه في سياق منظوره الفردي، ومن هنا أود التعقيب بما أسعفتني به دقائق الزمان وروح الكلمة.

يقول د. مصطفى محمود رحمه الله :

«إنما شعار اليوم هو الكلمات الملثمة.. كلُّ كلمة تلبس ظاهرا مزخرفا غير باطنها، وكلٌّ يرتدي قناعًا، وكلٌّ خنجر مسمومٌ يُخفي نفسه داخل قفاز حريري معطر»، ومن خلال كلماته أنطلق بالقول بأن الأمة اليوم لا تزال تعاني في منهجية التقييم للتصورات الإسلامية الفكرية الناشئة في المجتمع الإسلامي من نهايات العهد العثماني مرورا بحقبة الاستعمار، إلى وكلائه ومن ثم الحكومات القائمة بحكم التغلب أو الاستبداد، أو القبلية الوراثية، فهي لم تقم بدارسة وازنة تجمع بها الوعي الزماني والمكاني وانعكاس الفكرة على التجربة، وانعكاس التجربة على الواقع وحركة المجتمع وتجاذباته، وانعكاس الحراك الاجتماعي مع الواقع وحالة التنافسية المحمودة وغير المحمودة بين التيارات الناشئة.

فلابد لمن يريد قراءة تيار ما، أن يحترم الحراك التاريخي وتجاذبات الأحداث في صناعة الرؤى والأفكار، فالمنطقة العربية منذ تقسيمات سايس وبيكو لم تهنأ بالسكينة والطمأنينة أو كلما أراد التقدم نحو استعادة مجدها، اصطدمت بالغرب المناوئ والتيارات التابعة له من حيث الحوكمة أو الأفكار؛ إضافة لقراءة الحركة الثقافية النشطة إبان كل حقبة زمنية، والتي كانت سببا إما في صقل أفكار ورؤى التيارات أو تبدلها إما للأمام إيجابيا، أو إلى الابتعاد عن المنهج الأصيل لها، فبقي منها الاسم والتاريخ، وغدت خليطا تنويريا لا يحقق الطموحات و الآمال المنعقدة في أحلام البسطاء، بأن تستعيد الأمة وحدتها وتتحرر من قيد التبعية.

ولقد لفت انتباهي محاولة البعض محاكمة تيار الشيخ محمد سرور بن زين العابدين رحمه الله على هيئة تنظيم هرمي كغيره من التنظيمات الإسلامية والتي تمتلك علاقات داخلية شبكية يتلقى فيها الفرد تعليماته بتسليم مطلق، وهذا خلط غير محمود وبعيد عن الواقع الفكري للتيار، فمع أن الشيخ سرور رحمه الله كان صاحب الرؤى العامة لفكر التيار عبر مؤلفاته ومحاضراته وندواته ورحلاته ، إلا أنه كان بمثابة الأب الروحي لا أكثر.

فلم ينصب نفسه يوما قائدا، ولم يدّع ذلك، بقدر حركة تأثير كلماته وروحانية الغيرة الإسلامية كان لها الأثر الكبير في تلامذته، ولعل بعضهم له تأثير في الأجيال الإسلامية أكثر من شيخه، ولهم من المؤلفات ما يفوق مؤلفاته، ولهم من الشهرة ما جعل الجيل المعاصر لا يدرك أن هذا الشيخ تلميذ الشيخ سرور.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن حركة السلوك الفردي وانعكاسه الجمعي من دولة وأخرى وإقليم وآخر تًقيّم باسم صاحبه لا بحدود التيار الذي ينتمي لأدبياته.

فجميع التيارات الإسلامية والفكرية الناشئة كان لها جُملة من التغيرات الأفقية الفكرية، منها ما كان تصحيحيا، ومنها ما كان متطرفا، فنسبة التكفير إلى المنهج السروري إسقاط لا عدالة فيه، فلو حاكمنا السلوك الفردي برؤى الشيخ محمد سرور نفسه، لوجدنا أنه في هذه الجزئية خير من حارب هذا الفكر، وحذر تلامذته والتيارات الإسلامية من الانحراف والانجراف نحو هذا المنحنى الخطير الذي سيخلق من رحمه تيارات نعاني من مفاسدها ليومنا هذا، والتيار وأهله وشيخه رحمه الله براء منه، وله سلسلة مؤلفات نفيسة بعنوان “الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو”، منها كتاب “جماعة المسلمين” يتناول فيه بالنقد فكر جماعة التكفير والهجرة التي نشأت بمصر، ويرد فيه على أخطائها المنهجية، وأفرد كتابًا آخر لنقد فكر “التوقف والتبين” والذي خرج من رحم جماعة التكفير والهجرة.

ثم انعكاس أحداث حرب الخليج، و المحنة التي مر بها أبناء التيار في تلك الفترة من اضطهاد وسجن ونفي كان لها أثر على بعض الرؤى الناشئة كانعكاس طبيعي للمظلومية التي وقعت عليه، وما أن نشأت حتى وأدها أهل التيار لصالح جمع الكلمة في الأمة وهي القاعدة الأساس التي يتبناها دائما، ومن بقي يناصب العداء الأعمى لكل ما يحيط به فإثمه وخطيئته على نفسه، لا على التيار الذي ترعرع بين مفرداته المعرفية.

وهنا أريد الإشارة لخصوصية الإقليم اللبناني الوارد منه الملحوظات، إذ لابد التنويه أن فترة الثمانينيات من القرن الماضي لتسعينياته تملكت ساحته أحداثٌ دموية ذات بُعد طائفي وفكري وسياسي، كان لها الأثر على كثير من أبناء التيارات الإسلامية التي عاشت ظلم الأسد أبًا وابنا وحلفائه من التيارات الأيدلوجسياسية اللبنانية، حتى بات أبناء السنة أيتاما لا ديّة لقتيلهم، ولا حظ لسيدهم، ما أثّر بنشوء تطرف فردي لا يعكس رؤى التيار في عموم الأمة وأبنائه كما أنه تجدر الإشارة إلى أن شيخه الروحي بقي يحاول مع ضعف البنية والإمكانات لإعادتهم لجادة الصواب، كجهد فردي روحي، وهذا ما ينبغي الإشارة إليه بعدالة، لا إضفاء سمة السرورية على السلوكيات الفردية الناشزة عن عموم الأمة.

ومن عاصر التيار وقرأ له، يعلم أنه يقدم رأي مجموع الأمة على رأيه، لأنه يؤمن بالتوحّد وجمع الكلمة نهجا ومنهجا، ولم يحاول يوما أن يُضفي على نفسه سمة القُدسية أو طرح نفسه على أنه الوريث الأصيل للفكر الإسلامي المرتبط بالعصر الذهبي النبوي، بل قدّم السلفي للصلاة والفتوى، والإخواني للبرلمان، والحمساوي لمقارعة الصهاينة، والمستقلين لمنصة الفكر والحضارة. هذا ما أدين به، وكلٌ يخطئ ويصيب، وكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

ماذا يعني سقوط الفاشر السودانية بيد قوات الدعم السريع؟

بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون أعمق، لكن الوجدان لا يتحمل كل هذه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *