أين كلماتكِ النارية؟
أين خوضَ المعارك؟
أين النبرة الحادة؟
أين بركان قلمك الذي ينفجر في وجه الطغاة؟
هل تركتِ النِزال وأقبلتِ على الموادعة والمُهادنة؟
تساؤلات تتكرر بالعام وبالخاص، وجها لوجه وعبر العالم الافتراضي..
وكفيتُ بقية القراء المُحترمين طرحها، مع علمي اليقيني بأنها تدور في صدور كثير من أقرب الناس وأكثرهم مُوافقة لي وأشدّهم حُسن ظنّ بي..
لكنني يا عزيزي لن أنكر أنني قد تغيرت، وكيف أنكر أنني قد تغيرت؟ وكيف لا أتغير وكل شيء في الكون لا ثبات له؟ وكيف لا أتغير وقد تبين لي عبثي ومراهقتي الفكرية، بعد أن صرتُ مع تقدم العمر أكثر نضجا وهدوءًا وعقلانية وبحثا عن سُبُل السلامة وراحة البال؟!
نعم تغيرت، بعد أن أدركت أنني كنت أصارع طواحين الهواء مثل “دون كيشوت”، واستنزفتُ نفسي وقلمي في معارك كلامية لم أجنِ منها سوى العداوات ومظاهر الشقاق مع المخالفين، كنت أنطلق في بلاهة لشتم هذا وذاك وأعتبره من بيان الحق، والحق بريء من عرضه في قالب العداوة والتنفير.
لم يكن لي من مكاسب سوى التصفيق الحاد الذي يصدر عمن وافقَتْ معاركي هواهم، وكأنني أنوب عنهم في الهجوم الضاري الذي ربما يتمنى بعضهم أن يكون على يد أحد غيره.
تغيرتُ بعد إدراكي أنّ عليَّ واجب الحديث فيما ينفع الناس لا ما يرضي أذواقهم ويشفي غليلهم، وبعد أن وعيتُ الدرس بأن الشتم واللمز والهمز لن يحدث تأثيرا في هذه الأمة، ولن يهز عروش الظالمين.
تغيرت بعد أن أدركت أن بناء الإنسان والنهوض بوعي الشعوب هو واجب المرحلة، وأن ذلك هو سبيل رفعة هذه الأمة، لا المعارك والشقاق وبذر العداوات.
تغيرت بعد أن أدركت أنني كنت بالهجوم الذي لا طائل منه على الحكام أعادي شعوبهم وأنا لا أدري، مع أن هذه النبرة الحادة لن تقدم أو تؤخر شيئا، وكان يكفيني أن أبين الحق دون أن أهاجم أحدا أو أناصب أحدًا العداء.
تغيرت بعد أن وعيت جيدًا أن هناك مشتركات يمكن الالتقاء عليها مع الجميع، وكلها لا تتعارض مع المبادئ، ولا تصادم الدين في شيء.
تغيرت بعد أن أدركت كم ضيعت من وقت وجهد في مناكفة المخالفين، مع أنه ليس كل خلاف ينتقد صاحبه، بل هناك ما يسوغ وما لا يسوغ، وحتى في الخلاف غير السائغ فالأولى التلطف واختيار ثوب للحق يجعله أحرى بالقبول.
تغيرت ولا غضاضة في هذا التغيير، فالمنهج به الثوابت والمتغيرات، والثبات التام ليس محمودا في الجملة، فجثامين الأموات أيضا ثابتة !!
وكيف لا أتغير إلى ما أراه صائبا أو أكثر صوابية، وقد تغير الكبار أمثال الشافعي، الذي غير مذهبه الفقهي بعد نزوله إلى مصر، فصار يقال: الشافعي في القديم، والشافعي في الجديد، ولم يبالِ بمن ينتقد جديده ويدّعي حاجة الأمة لقديمه.
تغيرت بعد أن أدركت كم المعارك الجانبية الهائلة التي أشعلتها، مع احتياج القضايا الكلية الكبرى لهذه الجهود، وأن هناك عقولا للملايين من أبناء الأمة تحتاج إلى بذل الجهد من أجل الارتقاء بها وتصحيح مسارها.
تغيرت ولا ضير في أن آتي متأخرة، فذلك خير لي من أن أقف في مكاني وأتشبّث بمقعدٍ مُكسّر مدفوعة بالمُكابرة وأنا أضع الحِمل كله على ساقيّ وحدي.
تغيرت بعد وقفة مع النفس تجاه مسلكي مع الإعلاميين والكُتّاب الذين كنت أناصبهم النزاع والمناكفة، وأسلط عليهم سهام نقدي، مع أن كل كاتب أو إعلامي له زلاته، وله وجهة نظره، فلا ينبغي أن تأخذني الحمية في الهجوم عليه لمجرد أنه يخالف قناعاتي، حتى أولئك الذين استحقوا الهجوم كان ينبغي أن أغلفه بالحكمة والهدوء،
وإلا فلا فائدة من التعليق على كلماته، وكان ينبغي أن أبين الخطأ في قالب نصح يعزز ثقافة التعامل مع الخلاف ولا يؤجج النيران ويشغلنا بالمعارك الجانبية.
ما زلت أتعلم، وما زلت أطور من نفسي، وما زلت أقف مع ذاتي، وسأظل في اتجاهي- بإذن الله- إلى التغيير ما كان هذا التغيير إيجابيا.
أعلم أن هذه الكلمات قد تغير مواضع المُتخندقين، فيسخط علي من كانوا يصفقون لي على سلاطة قلمي، ويتقارب معي الذين كانوا يستاؤون من هذا المنحى، لكن صدقا لا أبالي بهذه النتيجة، ولن أجعل حصد الأصوات والتأييد والهُتاف والتصفيق هو معيار التحرك والتوقف، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
“نعم تغيرت.. ولا أجد غضاضة من التحدّث عن أيّة تفاصيل.. “