لكل نعمة وفضيلة يحوزها الإنسان ضريبة يدفعها عنها، ومن أعظم النعم على العبد أن يكون له حظ من صالح الأخلاق.
وقد جاءت النصوص القرآنية والنبوية لتؤكد على أهمية حسن الخلق، فبه يُستكمل الإيمان، وهو دلالة على خيرية صاحبه، وبه يدرك العبد درجة الصائم القائم، وهو من أعظم ما يثقل ميزان العبد يوم القيامة، وصاحبه أقرب الناس مجلسا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة.
ومن الطبيعي أن يكون لهذه الفضيلة ضريبة يدفعها الإنسان، تماما كما يدفع الضرائب عن ماله، المتمثلة في الزكاة.
وضريبة الأخلاق يدفعها العبد من خلال التعامل مع الآخرين الذين ربما كانوا فتنة لصاحب الأخلاق الحسنة، وهو ما يستشف من قوله تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة)، فيحدث أن تُخالق الناس بخلق حسن، ثم تجد منهم ما يضغط عليك للتخلي عن هذه الفضيلة وعن هذا الخلق، فحينها إما أن تتخلى عنها أو تدفع الضريبة عنها بالصبر عليها أمام ضغط الواقع.
عندما تكون حليمًا، فربما تكون ضريبة هذا الخلق أن تحلم على من يستغل حلمك فيمعن في استفزازك لعلمه أنك امرؤ حليم، فهو اختبار لحلمك هل يصدر منك عندما تقع تحت الضغط؟
وعندما تكون كريمًا جوادًا منفقًا، فهذا الموطن تتوالى فيه الاختبارات لكرمك وجودك، فيحدث مثلا أن ترى محتاجا أو غارمًا ثم تفك عنه كربه، فحينئذ قد لا يكف عن طرق بابك كل حين، ويتفنن في إظهار احتياجه كل مرة، أو ربما تُبتلى بالحسد من قبل الآخرين فتكون مخيرًا بين الاستمرار في العطاء أو الكف.
وقد تكون من أهل صلة الأرحام وتفقد أحوال الأقارب وتحرص على ذلك بكل جهدك، ثم تُبتلى بتجاهلهم وتقصيرهم في صلتك، فحينها يمثل هذا التجاهل ضغطا عليك، فهل تعاملهم بالمثل أم أنك ترضى بدفع الضريبة وتتمسك بما أنت عليه من أخلاق؟
عندما تكون صادقا وتتحرى الصدق في جميع أحوالك، قد تُبتلى في محيط عملك أو دراستك بمن يتعاطون الكذب كما يشرب أحدنا الماء، وتجد نفسك بينهم كالغريب أو عابر السبيل، وتواجه صراعًا نفسيًا إزاء هذا النداء الشيطاني الذي يريد لك أن تضعف بإلْف الكذب الذي يجري على سمعك وبصرك، فهل تتمسك بهذا الخلق وتعض عليه بالنواجذ أم أنك تتماهى مع الكاذبين.
وربما كنت من أهل الأمانة ثم تقع في ضائقة مالية، فتتزين لك الفتنة في عمل يعتمد على المعاملات المالية ووجود الأموال الطائلة بين يديك، بينما الفرصة سانحة أمامك لأن تختلس دون أن تقع تحت طائلة المحاسبة الدنيوية، فحينها تقع أمانتك تحت الاختبار، فهل تلبي نداء الباطل أم تقدم الصبر ضريبة لأمانتك؟
قد علم الله تعالى أن أخلاق العبد تختبر بالآخرين، فلذلك عندما قال لعباده (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) أعقبها بهذه الوصية التي هي في ظاهرها تساؤل: (أتصبرون)، فهي دعوة إلى الصبر والتمسك بهذه الفضائل والأخلاق مهما كان سلوك الآخرين، فذلك الصبر هو الضريبة التي يدفعها الإنسان عن أخلاقه.
والإنسان مهما ادعى من أخلاق وفضائل، فإنها لا تثبت له إلا من خلال اختباره بالتعامل مع الناس، وهذا أمر بديهي، فالذي يعيش وحيدًا في بطن الجبل بمعزل عن الناس ويدعي أنه صادق، كيف يتكشف صدقه؟
لذلك فالإنسان مأمور أولا بتحسين خلقه، ومن بعد ذلك بالصبر على هذه الأخلاق أمام الفتن الناتجة عن معاملة الآخرين والوقوع تحت ضغط سلوكياتهم التي تستفزه للتخلي عن تلك الأخلاق، ولذا يدعو الإنسان دائما بأن يحسن خُلقه كما حسّن خَلْقه، وأن يهديه لأحسن الأخلاق فلا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنه سيء الأخلاق لا يصرف عنه سيئها إلا هو، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.