«ربُّنا ربُّ قلوب»، عبارةٌ حُرِّفت عن معناها الصحيح وغدت تمثل مهربًا من النقد وتأنيب الضمير، وشماعة تُعلَّق عليها الأخطاء، ومنطقًا لتبرير العجز والكسل والغفلة عن اتباع أوامر الله تعالى والتخلف عن العمل بأحكام الشريعة.
لا خلاف على كوْن القلب هو سيد الجوارح ومليكها، وهو محل الهداية والضلالة، والبصيرة والعمى {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
ولا خلاف كذلك في أن القلب هو كلمة سر النجاة يوم القيامة {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88-89].
ونقرّ كذلك بأن القلب وما وقر فيه من إيمان وتقوى هو معيار التفاضل في الأعمال بين الناس، فربما أتى الرجلان بنفس العمل، وبينهما في الأجر كما بين السماء والأرض، بذلك الشيء الذي يستقر في القلوب من الإيمان بالله والإخلاص له، كتلك البغي التي حدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم، دخلت الجنة بسقيا كلب كما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا).
وحول ذلك المفهوم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية «فَهَذِهِ سَقَتِ الْكَلْبَ بِإِيمَانٍ خَالِصٍ كَانَ فِي قَلْبِهَا فَغُفِرَ لَهَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ كُلُّ بَغِيٍّ سَقَتْ كَلْبًا يُغْفَرْ لَهَا».
نقر بذلك ونعترف، ولكن هذا القلب لابد لصلاحه من برهان، وبرهانه الأعمال الصالحة التي تترجم صلاح القلب، فكما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُله أَلا وَهِي الْقلب) متفق عليه.
وعلى هذا فلا يعد القلب صالحا إلا إذا كانت الأعمال تشهد له، فليس الإيمان والتقوى مجرد دعوى، قال الحسن البصري «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن بما وقر في القلب وصدقه العمل».
لقد لبّس الشيطان على الناس أمر دينهم، وسوّل لهم أنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما ذهب المرجئة الذين حادوا عن المنهج الحق الذي كان عليه الناس في عهد النبوة والقرون المفضلة، فعزلوا أعمال الجوارح عن القلوب، وصار العامة يرددون بغير بصيرة ولا هدى: «ربنا رب قلوب»، ونسبوا إلى قلوبهم العمار بينما أعمالهم خراب.
وتراهم يقولون إن الله تعالى لا ينظر إلى صورهم ولا أموالهم ولكن ينظر إلى قلوبهم، ويغضون الطرف عما جاء في تتمة المعنى الوارد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ).
ذلك لأن الجوارح تصدق القلب أو تكذبه، فلا يمكن لقلب أن يكون سليما صحيحا إلا كانت الجوارح تصدق ذلك، ومن يدعي أن قلبه عامرٌ بمحبة الله والإيمان به وهو مُصرّ على معصيته بعيد عن طاعته، فليعلم أنه مغرور قد غرّه بالله الغرور، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.