وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
لله درّ أمير الشعراء الذي سطّر هذا البيت الذي استهل به قصيدته، في التعبير عما يعتمل في صدر كل امرئ مؤمن من بهجة تجاه مولد سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم.
فبعيدًا عن الجدل الثائر كلما حلت ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، نتيجة اختلاف الفقهاء في مشروعية الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم، ما بين مانع مطلقًا ومجيز بضوابط، فإنه مما لا شك فيه، أن كل مؤمن يجد في قلبه فرحة كلما أقبلت هذه الذكرى العطرة، ذلك أنه يوم من أيام الله التي امتن فيها على الإنسانية بمولد الرحمة المهداة الذي أرسله رحمة للعالمين.
تلك الفرحة المشروعة هي القاسم المشترك للجميع، والأمر المجمع عليه، لدلالته على عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في القلوب، واعتبار مولده ومبعثه صلى الله عليه وسلم نعمة عظيمة في حياة البشرية تبعث على الفرح والسرور.
هذه الفرحة التلقائية العفوية هي ما ينبغي أن نستثمرها في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم، لا أن نأتي بطقوس تتنافى مع شريعته صلى الله عليه وسلم، ولا أن نختزل فرحتنا بهذه المناسبة في شراء الحلوى وتعليق الزينة والتوسعة على الأهل في المطعم والمشرب.
نستثمر هذه الفرحة بجعْلها تجديداً للعهد مع الله الذي أرسل لنا هذه الرحمة بأن نحيي في أنفسنا الاتباع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك الاتباع الذي خبا وهجه لدى الأمة -إلا من رحم الله– التي انغمست في زخرف الحياة الدنيا، وطغت عليها المادية، بعد أن دخلت جحر الضب وراء الغرب الذي يناصبها العداء.
لن يكون هناك بعثٌ لهذا الاتباع إلا بأن نتعامل معه على حقيقته، من أنه قرين للمحبة وبرهان عليها، فمهما ادعى المرء محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فلن يكون صادقًا إلا إذا اتبعه فيما جاء به من عند الله.
أما محبته صلى الله عليه وسلم فهي أصل من أصول الدين، وتابعة لمحبة الله تعالى، يقول ابن القيم: «وكل محبَّة وتعظيم للبشر فَإِنَّمَا تجوز تبعاً لمحبة الله وتعظيمه كمحبة رَسُوله وتعظيمه فَإِنَّهَا من تَمام محبَّة مرسله وتعظيمه فَإِن أمته يحبونه لحب الله لَهُ ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله لَهُ فَهِيَ محبَّة لله من مُوجبَات محبَّة الله»(1).
محبة النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة على محبة كل ما سواه، فهو القائل: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»(2)، ولما أخبره عمر بن الخطاب أنه يحبه أكثر من كل شيء إلا نفسه التي بين جنبيه قال صلى الله عليه وسلم: «لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك»، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»(3).
فقد أدرك عمر بعد التأمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والآخرة(4)، فلذلك ذكر له أنه يحبه أكثر من نفسه.
لقد كان الصحابة أشد الناس حبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبو بكر في رحلة الهجرة يتحدث عن بعض تفاصيلها قائلاً: فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَصَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ(5)، فلنتأمل تعبير «فشرب حتى رضيت»؛ فإنها تغني عن التفصيل في محبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم هو من شرب وكأن أبا بكر هو من ارتوى.
ولن نستفيض في روائع محبة الصحابة لنبيهم صلى الله عليه وسلم إذ لا يتسع لها المقام، لكن في الجملة عبّر علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كَانَ والله أَحَبَّ إِلَيْنَا من أَمْوَالِنَا وَأَوْلادِنَا وَآبَائِنَا وأُمَّهَاتِنَا وَمِنَ المَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأ»(6).
والمحبة يدعيها كل أحد، وهي الإجابة التي يأتيك بها كل من تسأله عن سبب فرحه بذكرى المولد النبوي، الجميع يتحدثون عن محبتهم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن سيبقى ذلك مجرد ادعاء ما لم يقم على هذه المحبة برهان، وبرهان محبة النبي صلى الله عليه وسلم هو اتباعه فيما جاء به من عند الله، فلا محبة بدون اتباع كما قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31)، فمحبة الله تعالى ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي تبع لمحبة الله، دليلها وبرهان صدقها اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي عياض: من أَحَبَّ شَيْئًا آثره وَآثَرَ مُوَافَقَتَهُ وَإلَّا لَمْ يَكُنْ صَادقًا فِي حُبّهِ وَكَانَ مُدَّعِيًا فالصَّادِقُ فِي حُبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تَظْهَرُ علامة ذَلِكَ عَلَيْهِ وَأوَّلُهّا: الاقْتِدَاءُ بِهِ وَاسْتِعْمَالُ سُنّتِهِ وَاتّبَاعُ أقْوَالِهِ وَأفْعَالِهِ وَامْتِثَالُ أوَامِرِهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرهِهِ(7).
وعلى ذلك، ينبغي أن نجعل من فرحتنا بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم تجديداً لعهد الاتباع، بأن نتمثل منهجه صلى الله عليه وسلم واقعًا في حياتنا، نخرج من إطار دعوى المحبة الخالية من أي ترجمة على أرض الواقع إلى المحبة الحقيقية التي يقترن بها اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به.
الأمة تمر بمرحلة حرجة بالغة الخطورة، أصبحت الفتن كقطع الليل المظلم، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم تُحارب في الداخل والخارج، لا يكف أعداء الأمة عن الدعوة الدؤوب لإقصاء السُّنة، وإثارة الشبهات حول الرسالة المحمدية في ظل الجهل الذي استشرى في أمتنا.
ومن ثمّ، حري بكل من يحب النبي صلى الله عليه وسلم أن ينصر سُنته، بأن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو غيره إلى الاتباع، فلا عودة لهذه الأمة إلا باتباع خير الأنام.
ولئن كان على المسلم أن يعيش بقلبه وجوارحه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل وقت وحين، إلا أن ذكرى مولده التي تهوى إليها الأفئدة يجب أن نجعلها محطة لتجديد عهد الاتباع، لا أن نقف عند المناسبة بإظهار السرور ثم نولي ظهورنا منهج نبينا صلى الله عليه وسلم، وإلا كنا كاذبين في دعوانا.