سل أي مواطن عربي: لو أردنا أن نسمي قناة «الجزيرة» القطرية باسم أحد العاملين فيها، سيجيبك البسطاء الذين لا يلتفتون إلى الأسماء ولا يبالون بحفظها قائلين: الرجل الذي يستضيف اثنين تنشب بينهما المشاجرات. ويجيبك أي متابع مهتم، ولو كان ضئيل الثقافة: فيصل القاسم، مقدم برنامج «الاتجاه المعاكس» على قناة «الجزيرة».
الدكتور فيصل القاسم ابن سوريا، ليس فقط أحد رواد هذا الصرح الإعلامي، إنما هو أبرز من شكلوا هوية وجماهيرية هذه الشبكة الإعلامية التي أخذت مكانها على خريطة الإعلام الدولي.
على الرغم من أن القاسم أكاديمي ومنتج ومعد برامج ومؤلف وكاتب، إلا أن شهرته قرينة البرنامج الأشهر في الوطن العربي «الاتجاه المعاكس»، البرنامج الحواري الذي يعرض وجهتي نظر متعارضتين، ويتطرق لمواضيع بالغة الحساسية في السياسة والاقتصاد والقضايا الاجتماعية والدينية، ولك أن تعرب عن دهشتك إزاء برنامج تمضي مسيرته على مدى 28 عاما بالوهج نفسه، ذلك أنه نجح في جذب الجماهير من خلال استضافة شخصيات مرموقة وصلت إلى نطاق حكام الدول والزعماء وقادة الثورات، إضافة إلى أسلوبه الذي يضرم النار في النقاش، فيخرج كل ضيف ما لديه، بصرف النظر عن الصورة الحادة التي يظهر بها الحوار، لكنه نجح في الاستمرارية والتأثير رغم كل شيء. إعلامي شرس حاد جريء، ذلك هو ما ترسخ في الصورة الذهنية لكل المتابعين تقريبا عن فيصل القاسم، لم يترك لنا مجالا لأن نحاول التعرف على أبعاد شخصيته الأخرى، ولا ماضيه ولا تكوينه النفسي والفكري والمهني، وكأن برنامج «الاتجاه المعاكس» هو كل محتوى التعريف بهذا الرجل. لكن بودكاست ضيف شعيب، الذي استضاف فيه شعيب راشد، الدكتور فيصل القاسم، سبر أغوار شخصية هذا الأخير، وأجاب للجماهير عن سؤال: من يكون فيصل القاسم.
من يصدق أن هذا الإعلامي المرموق عاش هذه الطفولة البائسة، فلم يكن سوى ابن من بين تسعة لأب وأم فقيرين، تعمل الأسرة بالأجرة في أرض الغير، وعندما نتحدث هنا عن الفقر فهو المدقع، الذي لم يعبر عنه كوْن اللحم والحلوى ضيفا موسميا فحسب، بل يعبر عنه أن خرج هذا الطفل قاسم منذ نعومة أظفاره للتكسب، ليس من أجل بناء مستقبله، وإنما لسد رمق هذه الأسرة. هذا الصبي الذي لم يترك مهنة إلا والتحق بها، فهو يحصد ويدرس بالأجرة في أرض غيره، وهو الكهربائي، والنجار، وعامل البناء، والحداد، وعامل في رصف الأحجار، وعامل النظافة الذي ينظف الأماكن من المخلفات بالأجرة، كيف كان شعوره وهو يجلس على قارعة الطريق ينتظر أن يمر عليه أحدهم ليستأجره؟ وكثيرا ما كان يتجاهله أصحاب العمل، فيعود مجترا همه إلى المنزل، الذي يقابله بالعسف لفشله في التكسب. هذا الصبي الذي لم يكن يصاحبه أحد في قريته لتردي أحواله المعيشية ووقوع أسرته في ذيل قائمة الفقراء، حصل على الإعدادية أو المتوسطة بما يؤهله للتعليم الثانوي العام، لكن الفقر ألجأ أباه إلى أن يدفعه للتطوع بالجيش، وبعد أن فشل في ذلك، حاولوا إلحاقه بمدرسة الصناعة للحصول على خمسين ليرة شهريا يتقاضاها الطالب، لكنه فشل في ذلك أيضا، فلم يجدوا بدا من إلحاقه بالتعليم الثانوي. كانت فترة بالغة الصعوبة، فالمدرسة تبعد عشرة كيلومترات عن قريته، بالكاد كانت توفر له والدته ربع ليرة لركوب الباص ذهابا ومثلها للإياب، دون طعام، فأحيانا كان ينفق تكاليف العودة على الطعام وينتظر أي سيارة تمرّ به تقله مجانا، وأحيانا كان يخرج من المدرسة ويعمل وقتا بأحد أفران الخبز ليجني في النهاية خبزا يسد به جوعه.
هذا الفتى الذي كانوا يسخرون من لبسه وهيئته بالمدرسة، كانت أسعد فترة في حياته تعرفه في البكالوريا على ابن شيخ القرية، كان يستذكر الدروس معه في بيت الأخير، وينعم بما تضيفه به سيدة المنزل من طعام وشراب ومعاملة حسنة، وكان زميله يذهب معه أحيانا إلى بيته المصنوع من الطين ويحتوي غرفة واحدة للجميع بلا حمام، بلا مرافق، بلا أي مظهر من مظاهر الحياة المعروفة. كُللت هذه المعاناة بحصوله على المركز الأول في مدرسته، في زمن كانت تخرج نتائج بعض المدارس: «لم ينجح أحد»، لكنه نجح بتفوق صدم جميع من حوله. التحق بجامعة دمشق قسم الأدب الإنكليزي، وبالمعاناة نفسها، إذ كان يعمل طيلة الإجازة ليوفر متطلبات التعليم الجامعي وقت الدراسة، وقام بتدريس الإنكليزية لأبناء القرية وهو في عمر الثامنة عشرة من أجل التكسب لينفق على نفسه وأهله. كان يحلم مجرد الحلم أن يحتسي فنجانا من القهوة على مقهى أمام الجامعة، فكيف يفعل وهو الذي يقتات على العدس والبرغل، يستعير الكتب والمحاضرات المكتوبة من أصدقائه لعجزه عن شراء الكتب، يذهب إلى امتحانات الجامعة أحيانا وبطنه يئن من الجوع. تخرج هذا الطالب الأول على الجامعة، وعين معيدا في الجامعة، ثم جاءت بعثة على حساب الدولة إلى بريطانيا وحصل فيها على شهادة الدكتوراه. وهناك من خلال الدراسة، انطلقت نفسه الثورية من عقالها، وهو ابن الطبقة المسحوقة التي تعاني مساوئ الطبقية وتسلط الأغنياء وتهميش الفقراء، وأوغل في المعرفة بالعلاقة بين المثقف والسلطة وأولاه عناية كبيرة في دراسته وقراءاته.
لست بصدد إعادة سيرة القاسم، لكنني في هذا المقام أضع الظروف والملابسات والمناخ القاسي الذي ولد فيه حلم هذا الفتى بأن يكون إعلاميا.
هذا الحلم الذي نشأ معه منذ الصغر، حيث كان شغوفا بالاستماع إلى الإذاعة، يستمع إلى الراديو في شغف خلال فترة راحة العمل، بهوس غريب، وكان يراسل الإذاعات فقط ليسمع اسمه، من خلال مشاركة بحكمة أو طلب لأغنية، وذات مرة وجد في جريدة اسم محمد القاسم، ووضع فيصل بدلا من محمد، فقط ليحلم أن يكون اسمه على صفحات الجرائد.
لم يكن يعترض هذا الحلم سوى الوضع الاجتماعي الضاغط، الذي يذكره كلما استغرق في الحلم بأن الظروف أقوى من الوصول إلى حلمه، لكنه يدافع الهواجس، ويدرب نفسه وهو في سن الثالثة عشرة على تقديم نشرة الأخبار، ويسجلها على شرائط كاسيت. هذا الفتى المغمور أراد أن يصنع تأثيره بين الناس بنفسه، ويحوز اهتمام الآخرين ليلتفتوا إلى الصبي المُهمش، فأتقن العزف على الناي، حتى عرفه الناس في الأعراس والمناسبات. بدايته مع الشغف بالتلفزيون كانت مع استراقه البصر لتلك الشاشة، من خلال نافذة البيت الذي سبق بيوت القرية في حيازة هذا الاختراع العجيب، حتى أشفق عليه صاحب الدار وأدخله ليشاهد التلفزيون الذي ملأ حبه كيانه، وأحدث فيه انفجارا جديدا للحلم الإعلامي.
ظل هذا الحلم يكبر معه، واصطحبه في رحلة الدراسة في بريطانيا، لكنه لم يكن يعرف كيف سيصل إلى تحقيقه، إلى أن دعاه صديق له إلى احتفال رأس السنة في هيئة الإذاعة البريطانية ليتعرف هناك على نخبة من المذيعين العرب، فالتقاه مدير القسم العربي بها وأعجب بثقافته في الأدب الإنكليزي وأسلوب حديثه، فضمه إلى فريق عمل الإذاعة بعد فترة طويلة من الاختبارات الشاقة، أثبت فيها تفوقه، ثم اخترق مجال التلفزيون إلى أن وصل إلى «الجزيرة»، فكان الإعلامي فيصل القاسم.
إنني إذ أسرد حلم فيصل القاسم، فإن الهدف من ذلك ليس تسليط الضوء على الحياة الخاصة لشخصية شهيرة، وإنما لأبرز قضية الحلم الذي تمحورت حوله حياته، أهمية أن يكون لدى الإنسان حلم كما قال مارتن لوثر في عبارته الشهيرة «أنا لدي حلم»، بيد أن أحلام الكثيرين خاملة قعيدة لا تجاوز حد الأمنية، بينما كان حلم فيصل القاسم مُجنحا، لم تقعد به الظروف والتعلل بسوء الأحوال الاجتماعية، هو حلم كان يتحين أي فرصة ليحلق في أجوائها، يستثمر الأوضاع والأحداث، حتى لو لم تكن تجري على هواه، لكنه يستغلها للوصول إلى حلمه.
إنها دعوة للشباب الذين يبررون لأنفسهم القعود بسوء الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وضعف الإمكانات والقدرات، فقط عليهم أن تكون لهم أحلام ذات أجنحة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.