يتناقل الأردنيون حول الانتخابات النيابية طرفة عن وزير داخلية أسبق، سأله صديقه عن رأيه بترشح ابنه للانتخابات النيابية، فما كان من الوزير إلا أن أخرج قائمة من درج مكتبه، وبعد النظر فيها قال لصديقه: قل لابنك ألا يترشح، فاسمه ليس ضمن الناجحين، هذه الطرفة تلخص ما تشكله الانتخابات في الوعي الشعبي الأردني.
فمجلس النواب الأردني الذي يعبرعن الركن الأول في نظام الحكم في الأردن، بات منذ عقود خلت رهين تلاعب الأجهزة الأمنية، التي تصنعه، وتحدد نتائجه، وتعين أغلب نوابه، ورهين أداء نيابي باهت، طفولي، استعراضي، زاد الطين بلة، عدا قلة تحاول رفع صوتها وسط موج الغثاء الغالب بلا طائل.
انتخابات في ظروف غير مسبوقة
يقبل الأردن على انتخابات نيابية بعد شهرين، والتي ستتم ( إذا لم تؤجل ) في ظروف استثنائية غير مسبوقة، فوباء ” كورنا ” استدعى من الحكومة تطبيق قانون الدفاع، والذي بموجبه يمكن وقف تطبيق أي قانون في الأردن، كما ستجري الانتخابات في ظل إرهاصات صفقة القرن، والتي قد تتطلب من الأردن الدخول باتفاقيات جديدة، تحتاج لقرارات صعبة من مجلس النواب القادم لتمريرها، كما حدث مع اتفاقية وادي عربة عام 1993م.
الأحوال القائمة في الداخل الأردني مأزومة، فمن مديونية قياسية، إلى انكماش في الاقتصاد، وبطالة مرتفعة، وحريات عامة تعاني التعدي عليها، وفساد متفشي، وسلطة تشريعية هي في أدنى سلم ثقة المواطنين، وغضب شعبي متنامي على الأوضاع عامة، لكنه لا يزال مكتوما في صدور الأردنيين، الذين يوشك صبرهم على النفاد.
أجهزة الدولة تعاني الانفصام وتستدعي مشاهد التزوير من زمن سلامة حماد
في هذه الأحوال ورغم شدتها لا تزال أجهزة الدولة تمارس عملها بانفصام عن الواقع الشعبي، إلى درجة أن يستدير النظام الأردني لاستعارة مشاهد صياغة نتائج الانتخابات وصناعتها قبل أن تبدأ كعادته، رغم تخليه ظاهريا عن ذلك في الانتخابات عام 2016.
من أبرز مشاهد صياغة النتائج كان مشهد عام 1993، وهو العام الذي جرت فيه انتخابات نيابية هيأت نتائجها لفرض معاهدة وادي عربة مع العدو الصهيوني، وتم تغيير قانون الانتخابات لأجل ذلك كما ذكر رئيس الوزراء الأسبق مضر بدران، وجاء مجلس النواب عام 1993 على مقاس حكومي بتفصيل وخياطة من دائرة المخابرات العامة، وكان في واجهة المشهد وقتها وزير الداخلية الحالي سلامة حماد، صاحب الخبرة والمراس في لعبة صناديق الانتخابات.
2007 الأموات ينتخبون
المشهد الصارخ الأكبر والذي لن ينساه الأردنيون في انتخابات المجالس النيابية كان عام 2007، تدخلات مسبقة، تصويت العسكريين، وصناديق فاقت نسبة التصويت فيها ال 100%، حيث تميزت العملية الانتخابية بمشاركة الأموات فيها، وكان بطلها مدير المخابرات العامة محمد الذهبي، وأقر فيما بعد رئيس الوزراء وقتها معروف البخيت بأن الانتخابات تم تزويرها، لكن بدون علمه !!!
المشهدان يجري استدعائهما الآن في الأردن، قانون انتخابي متخلف، زاد التمزيق المجتمعي، ولا تختلف إفرازاته عن عام 1993، واستدعاءات أمنية لا تتوقف لكثير ممن أعلنوا نيتهم الترشح، وتهديدات تتعلق بأعمالهم، وتشكيل القوائم يتم برعاية الأجهزة الأمنية، ورغم حظر التجمعات بسبب وباء كورونا واعتقال من يخالف ذلك، إلا أن الحكومة رعت انتخابات عشائرية لإفراز مرشحيها للانتخابات!!!
ولا يفوت التنويه إلى وجود أكثر من 200 الف ناخب في سجلات الناخبين أماكن إقامتهم غير محددة، كل ذلك مقدمات تبشر بتجربة كعام 2007 المشؤومة ….
أهم الدوافع لهذه المشاهد كانت إرادة النظام قصقصة أجنحة الإخوان المسلمين بحجم القفص الذي يراد
وضعهم فيه، وإيجاد معارضات نيابية مضبوطة الإيقاع، ديكورية الشكل، ضئيلة التأثير، وبشكل لا يحرجه دوليا، ويلبي ضغوطا إقليمية عربية.
فما الذي يجري الآن في الأردن .. رغبة النظام ….. وإرادة الإخوان
هل يرغب النظام بمشاركة الإخوان المسلمين في الانتخابات؟ وهل يريد الإخوان المشاركة بالإنتخابات؟
وما الشكل والحجم الذي يرغب أن يشاركوا به ؟وما الشكل والحجم الذي يريد الإخوان أن يشاركوا به؟ الفوارق بين رغبة النظام وما يريده الإخوان ستحدد المشهدالنظام يرغب بمشاركة الإخوان وفق وزن وقياس يحدده هو، ويكون زينة فقط، والإخوان المسلمين حتى أشهر قريبة كانوا متجهين بل مندفعين للمشاركة بالانتخابات وبقوة، والتحضيرات لتشكيل تحالف وطني عريض كانت تتم على قدم وساق، وأطراف وشخصيات سياسية ووطنية عدة كانت تخطب ودهم للمشاركة ضمن التحالف، سعيا للحضور المؤثر، ومغادرة مربع الهوامش، لكن المشهد منذ شهرين تغير تماما، وانعكس بشكل كبير تجاه المقاطعة فما الذي جرى ؟؟
رسائل صريحة بالتدخل ….. ورأس العكايلة مطلوب
النظام وجه إلى الإخوان رسائل أمنية، ضمنية وصريحة، أن هناك شخصيات غير مرغوب بترشحها، على رأسها عبدالله العكايلة، الوزير الأسبق والنائب المخضرم، ورئيس كتلتهم البرلمانية حاليا، والشخصية الأبرز على مسرح الإخوان سياسيا، والرسالة لم تتوقف هنا، بل تمادت في طلب أن يكون الترشح محدودا ضمن دوائر معينة، رافق ذلك حملة استدعاءات أمنية مكثفة لأعضاء حزب جبهة الإسلامي ( رجالا ونساء ) ممن يحتمل ترشحهم، مع تهديدات لهم طالت عمل أقاربهم في دول خليجية، وتعطيل مصالحهم الخاصة.
الرسائل الأمنية أوضحت رغبة واضحة من النظام بالتدخل الصريح في نتائج الانتخابات قبل إجرائها، الأمر الذي أوجد مراجعة للموقف تجاه الانتخابات داخل الإخوان المسلمين، والشعور وأنه يجري جرهم لموقعة الغاية منها هز صورتهم محليا، ودوليا.
نقابة المعلمين وسط المشهد
وما زاد المشهد اشتعالا وتعقيدا الحملة الأمنية القاسية تجاه نقابة المعلمين، وانتهاك الدستور والقانون، وما رافق ذلك من قمع واعتقالات، مما زاد احتقان الشارع الأردني، وشعوره بالإحباط تجاه المشاركة بالانتخابات النيابية المقبلة، وضعف ثقته بكافة إجراءات الحكومة، خاصة أن الحملة الأمنية ترافقت مع صدور الإرادة الملكية بإجراء الانتخابات النيابيةمسار الأمور وتطوراتها في آخر شهرين قلبت المزاج العام تجاه الانتخابات في الأردن عموما، ولدى الإخوان خصوصا رأسا على عقب، واستبيانات مراكز الدراسات والرصد الانتخابي توضح مدى إحباط الشباب من المشاركة في الانتخابات، ومن جهة أخرى يرى الإخوان الأجهزة الأمنية تنظم وتدير المشهد معهم بإقصاء حاد، وانتخابات قادمة يجري تفصيلها ورسمها بالمقاس.
المخابرات في وزارة التنمية السياسية
في خضم الأحداث ورغم القرارات القضائية الأخيرة باعتبار جماعة الاخوان المسلمين فاقدة للصفة القانونية، تمت عدة لقاءات حكومية وأمنية مع قيادات من الإخوان المسلمين، تناولت أزمة المعلمين، ووضع الجماعة القانوني، وملف الانتخابات النيابية.
التقى ضباط أمنيون كبار مع المراقب العام بعد تجديد انتخابه، والتقى وزير الداخلية في مكتبه بقيادات من الإخوان، وتمت لقاءات باطراف أخرى،آخرها كان قبل أيام في وزارة التنمية السياسية جمع أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي وشخصيات من الحزب مع الوزير، بحضور مساعد مدير دائرة المخابرات العامة المختص بملف الإسلاميين، وهو ذاته ضابط ارتباط إقليمي مع الامارات والكيان الصهيوني بخصوص مواجهة الإسلاميين في المنطقة.
الرسائل في اللقاءات بخصوص الانتخابات كانت واضحة، لن يسمح بالمشاركة باسم جماعة الإخوان التي تعتبر منحلة، والمطلوب المشاركة بحجم أقل من المرة الماضية، وعدم ترشح مسيحيين على قوائم الاخوان، مع محاولة التطمين بأنه لا استهداف لمرشحي الإسلاميين في حال التزموا بالسقف المطلوب، النقاش الطويل الممتد لساعات انتهى برفض ممثلي الحزب أن يكون حاضرا في مشهد ديمقراطي شكلي، وطلبهم أن ترفع المخابرات يدها عن ملف الانتخابات، وألا تقوم الحكومة بالزج بالبلد بأزمات لا داعي لها كما حدث مع المعلمين.
لقاءات أخرى أقل أهمية تمت مع شخصيات سياسية عدة مقربة من الملك، أكدت نفس الرسائل الأمنية، مع التطرق للبعد الإقليمي المتمثل في الضغط الخليجي ( الإمارات والسعودية ) على الأردن خاصة بعد عودة علاقاته بقطر، والحديث عن علاقة الإخوان بقطر وتركيا.
خيارات مُرة ….إلى أين تتجه بوصلة الإخوان
المشاركة أو المقاطعة في ظل الواقع الأردني خياران أحلاهما مر، فالمشاركة في تقدير قيادات إخوانية لن تمنع استهدافك إذا رغب النظام بذلك، وخطوات التحول في مواقف الأردن تجاه استنساخ نماذج عربية مجاورة والتخلي عن النموذج الأردني في التعامل مع الإخوان واضحة، كما أن المشاركة ضمن قواعد لعبة رسم قانون الانتخابات حدودها، وقيد عددها، تصبح ضربا من العبث، وتصنع منك ديكورا لمسرح الحكومة.والمقاطعة ليست قرارا للراحة، فهي تحتاج من صاحبها أن يقدم بديلا عن السلطة التي قاطعها، وأن يطرح مشروعا عمليا متكاملا يضغط من خلاله لتغيير الواقع السياسي، وأدوات ذلك تحتاج جهودا مضاعفة وصفوفا منسجمة متوافقة.
النظام يجهز ميدان الرماية
النظام الأردني يريد وجودا للإخوان المسلمين في الحياة العامة، وداخل مجلس النواب، ولكنه يريدهم ميدان تدريب للرماية، وطابع بريد على استدعاءات جلب الدعم الدولي والمنح، وخيلا تجري ضمن مضمار رسم خط بدايته ونهايته.
النظام يحتاج الإخوان في مجلس النواب القادم، وحصته المعلنة لهم لا تتجاوز (9) مقاعد، ولعبة الديمقراطية في الأردن ليست كأي بلد، أطراف محلية وإقليمية ودولية تؤثر فيها، وكل طرف له قواعد لعب، وحتى اللحظة ينجح النظام دوما بفرض قواعده.
هل يمكن قلب طاولة ؟؟
يمتلك الإخوان المسلمين في الأردن الخبرة، ولكن ينقصهم الإرادة، والثقة بالنفس أكثر، فمن يركض وهو ينظر للخلف يبطىء السير وقد يتعثر، النظر للأمام وحده يفتح الطريق، ولكي يقلب الإخوان طاولة اللعبة ليس أمامهم إلا خياران اثنان لذلك:
1- مقاطعة الانتخابات النيابية، وإيجاد تيار شعبي وسياسي وطني جامع ومؤثر، يفقد مجلس النواب القادم أي حضور، ويجعله بلا لون ولا نكهة، سواء على الصعيد الوطني، أو أمام المحافل الدولية
2- المشاركة بالانتخابات ضمن تحالف كبير، يحقق نتائج تزيد حصتهم في مجلس النواب، مما يمنحهم دورا مؤثرا وفاعلا في القرار السياسي، الأمر الذي من شأنه إن تم أن يحدث فجوة في جدار إنغلاق النظام السياسي، يمكن من خلالها النفوذ لإجراء إصلاحيات تبدأ بالدستور.
أما مشاركة الإخوان في الانتخابات وفق مواصفات ومقاييس النظام التي بثها من خلال لقاءاته بهم ورسائله، فستكون انتحارا ذاتيا، وطعنة للجسد من ذات يده، وحبسا للنهر خلف السد، وإقرارا بدعايات النظام عن تراجع حضورهم في الشارع الأردني.التحديات كبيرة، والمتغيرات متسارعة، والاستهداف واضح، ولن يقررعن الإخوان أحد، ولكن المؤكد أن الجميع سيتأثر بقرارهم في الأردن، وخارج الأردن، والأيام حبلى بالأحداث..