كتبتُ في الأسبوع المنصرم مقالا عن المجاعة التي ضربت غزة نتيجة الحصار والعدوان الإسرائيلي على القطاع وتعسفه في منع دخول المساعدات، وشبّهتُ الوضع المأزوم في غزة والجوع الذي يفتك بأهلها، بالشدة المستنصرية التي حدثت في مصر إبان العصر الفاطمي.
بعض الغيورين انتقدوا المقال باعتبار أنه مجرد كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، وأن غزة لا تحتاج إلى الكلام، بل إلى العمل، فمن ثم تفجّرت لدي الرغبة لأن أتناول وجهة النظر هذه بشيء من التفصيل والإيضاح، ليس ردًا على النقد، ولكن لأنها موضوع جدير بالتناول والمناقشة، ومن الأهمية بمكان، خاصة بعد طول أمد الأزمة.
مع ندرة أو انعدام الحلول العملية لدى الشعوب العربية والإسلامية، كان من الطبيعي أن تسود حالة من الإحباط العام الذي يخلفه الشعور بالعجز عن نصرة أهلنا في غزة، ما أدى إلى انزواء البعض بعيدًا عن الأحداث، وخفوت جذوة الحماس التي اشتعلت في النفوس منذ بدء العدوان الإسرائيلي.
هذا بالضبط ما يريده العدو الإسرائيلي، أن نيأس من تداول وتناول القضية، ونهوّن من شأن الكلمة التي تقال في أحداث ومعاناة غزة.
ولئن كانت الحلول العملية هي الأصل الذي ندور حوله ونبحث في آلياته ووسائله، لكن الكلمة لها دور هام لا ينبغي التقليل منه.
الكلمة هي التي كوّنت الرأي العام العالمي الرافض للعدوان الإسرائيلي على غزة.
الكلمة هي التي كشفت عن زيف مظلومية الاحتلال الذي كان يروج بمساعدة الإعلام الغربي لأنه يعيش بين بيئة عربية وحشية.
الكلمة هي التي عرفت العالم أن معاداة الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي الغاشم، لا يعني مناصبة اليهود العداء كما يروج الصهاينة.
الكلمة هي أشعرت – ولا زالت- أهل غزة بأن هناك إخوانا لهم يفتك بهم الحزن والقهر والعجز عن نصرتهم وإنقاذهم.
الكلمة هي التي أوجدت ذلك الزخم الذي دفع باتجاه إدخال بعض المساعدات وإن كانت يسيرة في ظل تواطؤ الاحتلال والأمريكان على تجويع أهل غزة.
الكلمة هي التي جعلت الناس تفكر في حلول عملية، حتى أنه قد برز مؤخرا أسلوب مبتكر لتقديم المساعدات الإنسانية إلى أهل القطاع عن طريق المدن الساحلية، من خلال تعبئة الزجاجات البلاستيكية بالبقول والحبوب من عدس وأرز ونحوهما، وقذفها في البحر، أملًا في أن يدفعها التيار إلى سواحل غزة فيقتاتها الناس. وهي وإن كانت وسيلة غير مضمونة، لكنها تعبر عن تفاعل الجماهير وحرصهم على إيجاد الحلول العملية لدعم سكان غزة.
الكلمة والاستمرار في الحديث عن غزة وأزمتها، توصل رسالة إلى أعوان ورعاة الاحتلال بمدى الاحتقان الذي وصلت إليه الجماهير العربية والإسلامية، وهذا يحمل نُذَر الانفجار الذي تخشاه القوى الإمبريالية الغربية.
الكلمة تُبقي قضية غزة والقضية الفلسطينية مشتعلة، لتظل قضية مركزية لدى كل عربي ومسلم.
الكلمة تجعلنا نحافظ على إنسانيتنا لئلا نعيش هذا الانفصال النكد بين حياتنا الخاصة وبين أزمات الأمة الطاحنة.
الكلمة يُقاس من خلالها الرأي العام العربي والإسلامي تجاه أحداث غزة، لأنها معبرة عن توجهات الشعوب، وهو ما يحتل أهمية لا يستهان بها لدى صناع القرار في الداخل والخارج.
وأخيرًا، الكلمة إعذار إلى الله، إذ لا يملك الكثيرون غيرها، فلئن قُيدت اليد، فلا أقل من كلمة مكتوبة أو منطوقة، تكون جُهد المقل.
ولا يُفهم من هذه الكلمات أنها دعوة للانخراط في الكلام والتنظير واعتباره هو الشأن الأعظم، ولا يفهم منها أنها دعوة للرضا بالاقتصار على الكلمة، ولكن المراد عدم التقليل من شأن الحديث الدائم عن قضية غزة، وغلق الباب أمام القعود والانعزال عن التفاعل معها بحجة عدم وجود حلول عملية في نصرة ودعم سكان القطاع المنكوب.