عاقل الأندلس، هكذا لقّب الإمام مالك تلميذه يحيى بن يحيى الليثي الذي تفقه على يده في المدينة، وسبب تلك التسمية، أن يحيى كان يومًا في مجلس الإمام، فقال قائل: قد حضر الفيل، فخرج طلاب مالك لينظروا إليه عدا يحيى، فسأله: مالَك لم تخرج فترى الفيل – لأنه لا يكون في الأندلس- فقال له يحيى: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجئ لأنظر إلى الفيل، فأعجب به الإمام مالك ولقبه بعاقل الأندلس.
والمتأمل في هذا النعت الذي أضفاه مالك على تلميذه، يدرك أنه استحقه بأمر لا يحسن الكثيرون الالتزام به، ألا وهو التركيز على الهدف دون الالتفات إلى الصوارف والشواغل التي تجعله يحيد عنه.
إنما حياتنا مُترعة بالأفيال التي تعترض سبلنا في كل وقت وفي كل مكان وفي كل مجال، وتشغلنا بالالتفات إليها عن التركيز على تحقيق أهدافنا. فابتداء من حقيقة الخلق العظمى يبدأ عمل الأفيال، فالإنسان يدرك أنه جاء إلى هذه الحياة لغاية تحقيق العبودية لله والقيام بمهمة الاستخلاف، ومع ذلك يلتفت عن هذا الهدف الذي يترتب عليه مصيره الأبدي، وربما قضى حياته في التعاطي مع هذه الصوارف وكأنها الغاية الكبرى.
على سبيل المثال، فريضة كالحج الذي هو ركن من أركان الإسلام، تعترض الحجيج أفيال كثيرة، فترى كثيرا منهم ينشغلون في هذه الرحلة المباركة بتوثيق كل خطوة عن طريق الجوال، أو يولون جولات شراء الهدايا اهتماما مبالغا فيه، أو ينصرفون عن التركيز على تحقيق هدفهم بالمشاحنات والمنازعات.
والأمر يمتد إلى كل مجالات الحياة، ما من هدف للإنسان إلا وتتراءى أمامه الأفيال التي تشغله عن التركيز على أهدافه. في العمل والتكسب، يتعرض المرء مثلا للانشغال عن التركيز في العمل والإنتاج وتكوين الثروة، بالنظر إلى الأثرياء الذين يتربحون بمجهود أقل وعوائد أكثر غزارة، فيصاب بالإحباط وتفتر همته، مع أن الأولى به أن يركز في عمله ويبرع فيه ليكون طريقا له إلى الثروة التي قد يصل بسببها إلى تحقيق نفس المعادلة: مجهود أقل وعائد أكبر.
في المنزل، قد ينشغل الأبوان عن تربية الأبناء على الالتزام بتعاليم الدين والأخلاقيات والفضائل والقيم، وهي لُبّ مهام الوالدين، بالتركيز على توفير سبل الترفيه بشكل مبالغ فيه، حتى لا يقال انهم أقل من أقرانهم. والمتصدر للشأن العام بالتوجيه والقيادة والتثقيف ونحوه، ربما ضعف تركيزه على مهامه وأهدافه، بكثرة الالتفات إلى النقد الموجه إليه، وخوض معارك جانبية لا تصب في تحقيق هدفه.
وقد ينشغل صاحب العمل الإصلاحي الذي يحتاج إلى نفس طويل، عن التركيز على عمله بالانصراف إلى التفكير بالنتائج المستقبلية، أو عدم وجود ثمرة آنية.
كلها أفيال تعترض أهداف الإنسان، فإما أن يستجمع همه في التركيز على تحقيق أهدافه دون الالتفات إليها، وإما أن يخضع لنداءاتها فيرجع في النهاية بخفي حنين.
العاقل ذو الهمة العالية، لا يحيد عن التركيز على تحقيق أهدافه، ويطرح الانشغال بالأفيال جانبا، وقد كتبت سابقا عن نور الدين محمود زنكي سلطان الشام، وكيف أنه كان يعمل على هدف تحرير الأقصى، فكان كل تركيزه على هذا الهدف رغم الضعف والخور والشتات الذي ضرب أوصال الأمة، حتى أنه قد أمر ببناء منبر ليضعه في الأقصى بعد التحرير، حتى قال العماد الأصفهاني في أمره: «»فكان حاله وهو يأمر بالبناء ويصنعه، كحال نوح عليه السلام وهو يصنع الفلك، كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه». فعمل على هذا الهدف دون الانصراف إلى الأفيال، على الرغم من أنه لم يدرك تحقيق هذا الهدف في حياته.
استجماع الهمة للتركيز على تحقيق الهدف دون الالتفات إلى الأفيال هو سبيل الارتقاء واستثمار الأعمار فيما ينفع، فإذا عرفت فالزم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.