الأردن بين مراعاة الأمن القومي ودعم القضية الفلسطينية

إن من أسس الإنصاف في الحكم على مواقف الآخرين سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات أو دول، هو عدم اجتزاء هذه المواقف من سياقها العام، ومعرفة الدوافع والحيثيات المتعلقة بتلك المواقف.

وأمامنا هنا حالة لم يُراع فيها هذا الأساس في تقييم المواقف، وهو الموقف الهجومي من إعلان السلطات الأردنية قبل أيام “إحباط مخططات أمنية تهدف المساس بالأمن الوطني تقوم عليها “خلية” من 16 شخصا، اتهموا بالعمل على تصنيع صواريخ قصيرة المدى وطائرات مسيرة، رأت السلطات أنها تشكل خطرا كبيرا على أمن الأردن الداخلي.

أهداف الخلية الأمنية لا تزال حقيقتها مجهولة قبل الإعلان عن النتائج النهائية للتحقيقات الأمنية.
بالنظر إليها على أنها قضية متعلقة بالأمن الداخلي للأردن، فلا خلاف في أن أي حكومة لا يمكن أن تسمح بمجرد تصنيع السلاح لغير المؤسسة العسكرية، وتعتبر ذلك جرمًا تحاسب عليه فاعله، هذا إذا ثبت أنه تصنيع بهدف الاتجار، وأما إذا كان التصنيع بهدف الإضرار بالسلم العام والأمن الداخلي فهو أمر بلا شك يستحق الردع القوي.

إلا أن بعض الناشطين تحدثوا أن الهدف من العمل على صناعة هذه الأسلحة هو إمداد المقاومة الفلسطينية في حربها ضد الكيان الإسرائيلي، وفي ضوء هذه الرؤية سوف يكون طرحنا في هذه السطور، نظرًا لأن الأمر يرتبط بالقضية الفلسطينية، إذ أن البعض قد وضع هذا الإجراء الأمني للنظام الأردني تحت مقصلة الرمي بالخيانة للقضية الفلسطينية والعمالة وخدمة الكيان الصهيوني.

وكما قلنا الحدث قد تم انتزاعه من السياق العام، والسياق العام يشير إلى أن الأردن منحاز للحق الفلسطيني، فكيف يُتهم بالعمل ضد القضية الفلسطينية، فتاريخيا، ارتبط الأردن بالقضية الفلسطينية وظل طرفا مؤثرا وفاعلا في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، ومنذ قيام الكيان الإسرائيلي في عام 1948، استضاف الأردن ملايين اللاجئين الفلسطينيين إلى الحد الذي جعل هؤلاء جزءا من النسيج الاجتماعي، بل والحراك السياسي في الأردن.

وفي أعقاب “طوفان الأقصى” أدان الأردن العدوان الإسرائيلي واعتبره جرائم حرب، واتخذ عدة إجراءات احتجاجية مثل استدعاء السفير من إسرائيل، وإلغاء القمة الرباعية التي كانت مقررة في عمان بعد أقل من أسبوعين على الحرب في غزة بمشاركة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن والرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بعد قصف مستشفى في غزة أوقع مئات القتلى. وحمّل العاهل الأردني إسرائيل المسؤولية عن “المجزرة”، وطالب إسرائيل بوقف “عدوانها الغاشم على غزة فورا”.

كما ان الأردن “أوقف” من بين عوامل أخرى “التهجير القسري” للفسلطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة رغم حجم الضغوط الأمريكية والإسرائيلية من منطلق رفض التغيير في التركيبة الاجتماعية للأردن أو فرض واقع جديد عليه.
في مقابل ذلك، سمح الأردن لمواطنيه بتنظيم احتجاجات واعتصامات مناهضة لجرائم إسرائيل في غزة لمطالبة الحكومة بموقف “حازم” أكثر تجاه إسرائيل ودعم أكبر للمقاومة الفلسطينية.

إذن، فالقضية الفلسطينية لدى الأردن هي قضية مركزية لا يمكن التخلي عنها.
ولا يمكن تناول هذا الحدث الأمني في الأردن دون أن نطرح على الطاولة الحال الذي وصلت إليه الأمة من التفرق والتشرذم والضعف، ما جعل الكيان الإسرائيلي يتعامل مع كل دولة على حدة، فمن ثم تتجنب كل الدول العربية الدخول في حرب مع الكيان الإسرائيلي، ولا شك أن تمرير الحكومة الأردنية لدعم عسكري للمقاومة الفلسطينية – وفقا لتفسير بعض النشطاء- هو بمثابة إعلان للحرب على الكيان الإسرائيلي الذي ترعاه وتدعمه الولايات المتحدة الأمريكية بكل السبل.

ولابد أن نضع في المعادلة، حجم التحديات التي يواجهها الأردن، والذي يخشى من تفتيت التماسك المجتمعي الذي هو أساس بناء الدولة ووحدتها وأمنها واستقرارها، ويخشى من الإضرار بالتحالفات الإقليمية والدولية ذات الأهمية الاستراتيجية لأمن واقتصاد الأردن.

من ثم لا يمكن للأردن التساهل مع أية أنشطة تهدد أمنه واستقراره أو تعرضه لردود فعل إقليمية ودولية، مع موقف ثابت من الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني. وهو موقف يُجمع عليه الأردنيون، بما فيه العشائر التي تمثل الجزء الأكبر من النسيج الاجتماعي للأردن والتي لم “تبخل” في مواقفها الداعمة للقضية الفسطينية طيلة عقود من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. حيث تدرك العشائر الأردنية بوعي كامل انطلاقا من دورها الوطني أهمية الحفاظ على أمن الأردن واستقراره، وتدعو إلى تجنب أي أعمال قد تؤدي إلى زعزعة الأمن الداخلي أو استغلال الأراضي الأردنية في صراعات مسلحة، لتجنيب البلاد التداعيات الأمنية والسياسية في معادلة متوازنة تركز على مبدأ دعم القضية الفلسطينية بكل الوسائل المتاحة، مع التشديد على حماية البلاد ومنع أي استخدام لأراضيه قد يلحق أضرارا به أو بمواطنيه.

الأردن مع هذه التحديات يوازن بين مراعاة متطلبات الحفاظ على الأمن القومي والاستقرار الداخلي وتجنب الدخول في صراعات، ودعم القضية الفلسطينية سياسيا ودبلوماسيا وإنسانيا.
إن السماح باستخدام الأراضي الأردنية قاعدة لشن هجمات على الكيان الإسرائيلي أو جسرا لتهريب السلاح إلى المقاومة، سوف يحمل الطاولة السياسية للأردن ما لا تحتمل، وفي الوقت نفسه يسد عليها الطريق لدعم القضية الفلسطينية وقطاع غزة.

عن Ehssan Alfakeeh

شاهد أيضاً

ما لا يسع الكاتب الافتقار إليه

غالباً ما يكون توجيه الكاتب الناشئ نحو طريق الكتابة مقتصرًا على الأدوات والمقومات المادية من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *