مهما كان المرء مدركًا لظاهرة السراب، إلا أنه لو قدر له السير في الصحراء واستبدّ به العطش، لا ينقطع أمله حينها في أن يكون ما يراه ماء على الحقيقة.
تعويلنا واستبشارنا وآمالنا المنعقدة في وجود خلافات بين بايدن ونتنياهو حول الوضع في غزة من شأنها أن تسهم في إنهاء العدوان، هو من قبيل الهرولة خلف السراب، فالمشتركات والمصالح بين الولايات المتحدة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي أكبر وأكثر بكثير من الخلافات بينهما، والدعم الأمريكي للكيان الإسرائيلي هو توجّه استراتيجي منذ قيام الدولة المزعومة، حتى وإن تخلل هذا المسار وجود بعض الخلافات، لكن في النهاية تطغى الخيارات الاستراتيجية.
أمريكا التي امتنعت عن استخدام الفيتو للمرة الأولى لصالح الاحتلال ولم تجهض قرار مجلس الأمن 2728، هي نفسها أمريكا التي تمد الكيان المحتل بالسلاح والمال والمقاتلين والخبراء العسكريين، فهي شريك أساس للإسرائيليين في قتل أهل غزة وتجويعهم، فمما لا شك فيه أن الدعم الأمريكي للكيان الإسرائيلي هو رافد وجوده وبقائه ومادة حياته.
لكن هناك رافد آخر لبقاء الكيان الإسرائيلي لا يجب أن نغفله، ويعمل جنبًا إلى جنب مع الدعم الأمريكي ليصب في صالح الاحتلال، هذا الرافد هو السلطة الفلسطينية الكرتونية المهترئة، التي يتزعمها رجل بقيت له سنة واحدة ليتم عامه التسعين، ولم يزل يبحث عن السلطة على جناح التطبيع والاستخذاء والتوسل للاحتلال، على حساب تطلعات شعبه التواق إلى التحرير.
محمود عباس الذي جعل من الاستخذاء والاستسلام خيارًا استراتيجيا، هو عصا الاحتلال التي تضرب الشعب الفلسطيني، يلاحق كل مظاهر المقاومة التي تنشأ على أي شبر من أراضي فلسطين، لم يكتف عبر عقود فشل فيها سلام الحملان الذي ينادي به في إحراز أي تقدم في ملف القضية الفلسطينية، ومع ذلك يصر على سلوك الطريق الذي يحتفظ فيه بالكرسي، ذلك الطريق الذي يستلزم مناصبة المقاومة العداء، وشيطنتها في كل محفل.
يدرك الرجل أن العداء الأبدي مع المقاومة وملاحقة عناصرها في الضفة، هو السبيل إلى منحه الحضور في المفاوضات المتعلقة بالقضية الفلسطينية مع الجانب الإسرائيلي، هو نفسه الرجل الذي أكد كثيرا على عدم السماح باندلاع انتفاضة ثالثة.
هو نفسه الذي رحب بقيام النظام المصري بإغراق أنفاق غزة بماء البحر، وهو الأمر الذي ترتب عليه تهديد البنية الزراعية وتعريض الأراضي والمنازل للخطر وقطع الشريان الذي كان يمد القطاع بالمؤن ومستلزمات الحياة، ثم يتفاخر بأنه كان صاحب هذه الفكرة.
هو نفسه مهندس اتفاقية أوسلو التي لم تخدم سوى الاحتلال، والذي اكتسب منها شرعية الاعتراف به وشرعنة المفاوضات الثنائية والإبقاء على السيادة الإسرائيلية على أراضي فلسطين، ونزعت صفة الاحتلال عن العدو الإسرائيلي، وأسست لصراع فلسطيني فلسطيني بعد اشتراط ضمان الأمن الإسرائيلي من الأعداء في الداخل، يعنون به المقاومة.
حتى في ظل الأحداث المفصلية التي تمر بها فلسطين منذ السابع من أكتوبر، اكتفى بإطلاق الكلمات نفسها التي يطلقها كل حكام العالم في الشرق والغرب من ضرورة السعي إلى السلام وحقن الدماء، ويتجاهل أنه من المفترض أن يكون طرفًا في الصراع لا مشاهدًا على مقاعد المتفرجين.
ويمعن عباس في نهجه الانبطاحي ويقمع المقاومين ويطلق قواته لملاحقتهم واعتقالهم ووصفهم بالإرهابيين والمخربين، ويبالغ في تقديم خدمات مجانية للكيان الإسرائيلي ويحاول عن طريق رجاله البارزين اختراق عشائر غزة التي لها تاريخ من الخلافات مع حكومة حماس، ليتسنى له السيطرة من خلال التنسيق معهم على مقاليد الأمور في القطاع، بعد أن يتمكن الاحتلال من القضاء على المقاومة التي تقف حجر عثرة أمام الاحتلال في محاولته تصفية القضية الفلسطينية.
كل ما يهم عباس في هذه الآونة هو استلام قطاع غزة بعد تدميرها بآلة الحرب الإسرائيلية، وحتى يتمكن من ذلك دون وجود منافسين، يعارض إطلاق القيادي في حركة فتح المعتقل في سجون الاحتلال “مروان البرغوثي”، متوافقا في ذلك مع الإرادة الإسرائيلية والأمريكية، ويأبى عباس أن يكون البرغوثي مدرجا ضمن أي صفقة تبادل أسرى بين المقاومة والاحتلال، ذلك لأنه يخشى من حدوث استقطاب حاد داخل حركة فتح في حال خروج مروان البرغوثي الذي يتمتع بشعبية كبيرة وسمعة طيبة حتى لدى المقاومة في غزة، وقطعًا يصير مركز عباس مهددًا إذا تم الإفراج عن البرغوثي.
عباس ورجاله وسلطته وحركته، قاموا في هذه الأوقات الحرجة العصيبة التي يفترض أن يكون فيها الفلسطينيون على قلب رجل واحد، بمهاجمة المقاومة وشيطنتها وتحميلها المسؤولية عن الدمار الحاصل في غزة، واعتبار حركة حماس حركة خارجة عن السياق الفلسطيني تعبث بمصائر شعب فلسطين.
المقاومة كانت تعول بعد اندلاع طوفان الأقصى على إحداث حالة ثورية عامة أو انتفاضة فلسطينية في الضفة والقدس وسائر الأراضي الفلسطينية، وربما كان هو السياق الطبيعي في حال عدم وجود سلطة تقف في وجه الشعب الفلسطيني، فالفلسطينيون لا يواجهون البطش الإسرائيلي فحسب، بل يتعرضون كذلك لقمع وملاحقة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة التي تنوب عن الاحتلال في التصدي لكل صوت مقاوم، ومن ثم خابت توقعات المقاومة في حدوث انتفاضة جديدة.
وقبل دخول شهر رمضان، كان الاحتلال على وجل وخوف من عدم الحسم قبل رمضان، لأنه كان يترقب اندلاع انتفاضة في ذلك الشهر الذي يمثل صداعًا سنويًا في رأس الاحتلال، لكن مع ذلك لم يحدث شيء، وتأتي سلطة عباس وموقفها المتخاذل من الحرب وقمعها للفلسطينيين، كأحد أبرز أسباب منع قيام الانتفاضة. أبو مازن لم يقدم شيئا للقضية الفلسطينية، سوى أن حشرها في مسار يستبعد كل البعد عملية التحرير، مسار من شأنه أن يطيل أمد الاحتلال ويمكن له في السيطرة على كل الأراضي الفلسطينية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.