أطلق فرعون التحدي أمام موسى عليه السلام {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه: 57-58]، فقبل كليم الله التحدي {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59]، فشرع الطاغية يحشد زبانيته من السحرة {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه: 60].
أتى بهؤلاء السحرة لكي يسحروا أعين الناس ويسترهبوهم ظنا منه بأن ذلك كفيل بتحقيق النصر له، لكن الله نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.
سحرة فرعون، أصحاب الحضور الظاهر في خندق الباطل في كل جولة للصراع مع الحق، فالجيوش والسيوف والرماح وحدها لا تكفي، بل لابد من وجود محترفين في غسيل الأدمغة وتوجيه الرأي العام وصياغة الفكر بما يخدم سياسة الفرعون.
وها هو زعيم الانقلاب عبد الفتاح السيسي يجمع سحرته ليواجه بهم المصريين الرافضين لحكمه الجائر، جمعهم ليخوف بهم أناسًا من الخراب والدمار، ويوهن بهم عزائم آخرين ليقطعوا الأمل في الإطاحة بفرعون العصر.
سحرة السيسي هم الإعلاميون والفنانون، الذين هم سلاحه الذي جهزه منذ توليه وسلمه زمام الأمور، عن طريق الإغداق بالأموال والصلاحيات والنفوذ والمساحات تارة، وعن طريق الترهيب والتهديد بفضحهم أو قطع أرزاقهم أو التنكيل بهم تارة أخرى.
فأما الإعلاميون، فقد انطلقوا في غيّهم، يُلبسون على الجماهير، ويوهمونهم بأن النزول يعني الخراب والدمار، يعني مصير سوريا والعراق، يعني ضرب الاستقرار وإشاعة الفوضى، وجعلوا التظاهر مرادفًا لعداء الجيش المصري، فهي معركة ضد الجيش حامي الحمى، هكذا يزعمون.
ولم ينس سحرة فرعون أن يؤكدوا على مسؤولية الإخوان ومن ورائهم قطر وتركيا عن اندلاع المظاهرات، متجاهلين عن عمد أن الذين كسروا حاجز الخوف هم أولئك الذين لا ينضوون تحت رايات، بل إن القاصي والداني ممن يتابع الشأن المصري يعلم أن القوى السياسية والحزبية بمن فيهم الإسلاميون، لا يديرون المشهد ولا وجود يذكر لقواعدهم العريضة.
لقد بات الشعب يدرك أنه ليس أفضل حالا من السوريين والعراقيين، لأنه يموت جوعا وقهرا وظلما وقمعا، تموت فيه أحلامه وطموحاته، يموت فيه الشعور بالأمن حيال مستقبل الأجيال القادمة.
أجاد سحرة السيسي استغلال قيمة المؤسسة العسكرية في التأليب على المعارضين، لأن وضعهم في خانة العداء للجيش يعد خيانة للوطن، مع أن المتظاهرين نزلوا على مطلب واحد وهدف واحد، وهو إسقاط السيسي والإطاحة به بعد أن جعل من أرض الكنانة سجنًا كبيرًا.
الإعلاميون الذين يترنمون بشعارات الاستقرار والحفاظ على أرض الوطن، يرتكبون أعظم جرم وهم يحشدون مؤيدي السيسي للنزول إلى الميادين في مقابل مظاهرات الرفض، يريدون إشعال الدولة والصدام بين المصريين المؤيدين والمعارضين، وكان الأولى بهؤلاء أن يُقدموا إلى المحاكمة بتهمة التحريض على العنف، لأن النزول السلمي حق مكفول قانونًا، فلم كل هذا العبث؟
وأما الفنانون، فكان أداؤهم في المشهد لا يقل براعة عن أدوارهم في الدراما المصرية بمسلسلاتها وأفلامها السينمائية وحتى المسرحية، فنطقوا بلسان رجل واحد بما يخوّن المتظاهرين ويشيطنهم.
فأحدهم ممن صار نجما شهيرا ويمتلك ثروة طائلة من فوضى الإنفاق المحلي الذي يتجه للفن والرقص، يرمي الجزيرة بدائه ثم ينسلّ، يتهمها بالفبركة وهو من فعل، ويصدر أغنية لتشويه دعوات التظاهر والتخويف منها ونعتها بنعوت الدمار والخراب.
وأخرى حصلت على لقب الأم المثالية بفضيلة (هز الوسط) وإمتاع الجماهير طيلة عقود بالتمايل والعري، تخرج في مقطع مصور لتقذف قاذوراتها على الملأ، من سباب يعف اللسان عن ذكره، وسب للدين، تحت دعوى حب مصر والحفاظ عليها من أيادي المخربين.
وآخر بلغ من الكبر عتيًا لم يحترم عمرَه، وتكلف البكاء أثناء بذل المدح والإطراء للسيسي الذي أنفذ وأنجح ورعى ثورتهم المزعومة المعروفة بـ 30 يونية، وغيرهم الكثير والكثير من أهل الفن الذين صدرت إليهم الأوامر بذلك.
كيف لا يفعلون وهم المنتفعون بثروات الشعب، ويتحصل الواحد منهم في فيلم واحد على ما يوازي دخل مواطن مصري طيلة عمره، حتى قيل لي من بعض إخواني في مصر، أن حلم معظم الشباب إما أن يكون فنانا أو لاعب كرة.
كيف لا يفعلون وهم الذين صاروا في صدارة الوجهاء وقادة الرأي، الذين يمثلون الدولة في المحافل والمنتديات، ويعبرون عن تطلعات الشعب، ويصطحبهم الرئيس في رحلاته الداخلية والخارجية.
ماذا قدم هؤلاء لكي ينالوا كل هذه المنزلة؟ لا شيء سوى تقديم الرذيلة وسوء الأخلاق وغزو البيوت بالانحلال والفجور، ومن أجل ذلك صاروا علية القوم، أو هكذا جعلهم النظام، في حين يُقصى ويُهمّش أهل العلم والثقافة والفكر، وكأننا نعيش نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب و يكذب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يخون فيها الأمين و ينطق فيها الرويبضة قيل : و ما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) مع احترامي قطعا لكل فنان يقدم أعمالا هادفة وما أقلّهم!
هؤلاء هم سحرة السيسي الذين جمعهم لخصومه، لتوجيه الرأي العام وغسل أدمغة الجماهير، هؤلاء الذين يلقون بحبال الخديعة وعصي المكر فيخيل للناس أنها حقائق تسعى، ولكن لا يفلح الساحر حيث أتى.
سحرة فرعون علموا الحق فخروا لله سجدا وقالوا {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70]، أما سحرة السيسي فهم يعلمون الحق ويولونه ظهورهم، بل يعلمون أن الناس يعلمون أنهم كاذبون، فما أشبههم بمسيلمة الكذاب عندما مارس كذبه في ادعاء النبوة وتنزّل الوحي عليه أمام عمرو بن العاص قبل إسلام الأخير، حيث قال ابن كثير: “ذكروا أن وفد عمرو بن العاص على مسيلمة، وكان صديقا له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعدُ، فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو، ماذا أنزل على صاحبكم -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم -في هذه المدة؟ فقال: لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة فقال: وما هي؟ فقال: { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [سورة العصر]، ففكر مسيلمة ساعة، ثم قال: وقد أنزل عليّ مثله. فقال: وما هو؟ فقال: “يا وَبْرُ إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حَقْرٌ نَقْر، كيف ترى يا عمرو؟” فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك لتكذب”.
يا أهل مصر، إنما تخرجون مسالمين مطالبين بإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وحِّدوا مطالبكم واجمعوا كلمتكم على رحيل السفاح، ولا يجرنَّكُم السيسي وأعوانه إلى دائرة العنف، واعلموا أنما الأمر بيد الله، إذا أراد فلا راد لقضائه، فاعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، حفظ الله مصر وأهلها، وأقام فيه العدل والاستقرار والأمان بقدر حبنا لأرض الكنانة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الوسومارحل الإعلام المصري السيسي مصر
شاهد أيضاً
حاجة العقل إلى الوحي
لقد أعلى الإسلام من قيمة العقل، وأولاه عناية بالغة، فجعله مناط التكليف، وجاء الخطاب الإيماني …
ماشاء الله وتبارك الله عليك استاذتنا الفاضلة تشبيه بليغ بين فرعون الماضي السحيق وفرعون الحاضر، فهما لا يختلفان. ولكن ذلك كان يقولها صراحة دون مواربة أنا ربكم الأعلى، أما هذا جعل حفنة من الإعلاميين الدجالين أن يجعلوه إلها توريةً.
فقد أبدعتي وجردتيه من بهرجته وهالته الإعلامية رغم أن دجلهم زاد عن حده حتى غدا الأطفال يعلمون حقيقته المزيفة الواهية التي تخدم أعداء الأمة … الآن جل المصريون الشرفاء تنبهوا لخطأهم الجسيم الذي اقترفوه في حق الرئيس الشهيد محمد مرسي الذي كان همه رفعة البلاد والعباد، ولكن الحكومة العميقة قلبت الطاولة بعد أن ألبت الشعب عليه لينفذوا جريمتهم تحت غطاء شرعي، وليت الشعب أدرك ذلك من يومهم ما يحاك لهم لما كان الحال وصل إلى ما آل إليه من إغراق الدولة في ديون وسرقة الممتلكات العامة وإفقار الشعب إلى حد المجاعة.
نسأل الله أن تنجح هذه الثورة وتجتثه هو ومن ناصره، ونحن نؤمن أن رب ضارة نافعة لها مفعولها القوي. فلولا ضرب الله بعضهم ببعض لما ظهر الغسيل الوسخ على السطح وبانت لصوصيتهم جميعا. فيجب على الشعب أن ينبش عن الملفات والتجاوزات التي اقترفوها من كلا الطرفين والضغط عليهم بتصعيد الثورة حتى يسهل تقديمهم للعدلة، كما يحدث الآن في الجزائر.
جزاكم الله كل الخير أستاذتنا الفاضلة على هذه المقالة الجميلة التي تجعلنا على اطلاع فيما يحدث بأرض النيلين.
تحــــياتي ،،،،